وجه “والدة الإله”… مريم “الّتي تجيئني على طريقتها”
في حديقة مريم، يصبح اللقاء صلاة، تأمّلا في ذلك الوجه الحامل النور. من عتبة الصفحات الاولى، تبدأ الرحلة. “السيدة” الجميلة تبوح باسرارها. مع ايما_غريّب_خوري، انه الفيض مع مريم. تكتب عنها، في الرؤية الارثوذكسية اليها. انها “والدة الإله”، “الدائمة البتولية”. وتقفل الباب على اي “تشويش” او جدل او تشكيك او تعليم منحرف، وتكتب بلا هوادة. وبين ايقونة ارثوذكسية واخرى، تنسج من الحب الإلهي أجمل وجه. وجه “سيدتي”.
“تعلّمتُ منها، تعرفتُ اليها بالعمق”، تقول خوري. بينها وبين “سيدتها”، رفقة عمر، صداقة متينة، في السراء والضراء. هيام. “عشت جلجلتك وشاطرتك فرح القيامة، وانحنيت امام قداستك وذهلت بتواضعك”، على ما تخاطبها من دون تكلّف. “السيّدة” تجيئها “على طريقتها”. اما هي، فتنتظرها، و”ترتعش بالدموع متى شعرت بوجودها قربي”. وهكذا تتحوّل الصفحات انحناءة “أمام حشا” والدة الإله.
“والدة_الإله Theotokos”، عنونت خوري كتابها الصادر عن تعاونية النور الارثوذكسية. وقدمته اليها، الى “والدة الإله، عربون شكر وامتنان ومحبة واحترام”. في قراءة ارثوذكسية، يُعتبر “مرجعا تصحيحيا تصويبيا هاما جدا”، في مواجهة اي تعليم منحرف حول والدة الإله. بدءا بمجمع افسس (431م) الذي اقرّ بان “مريم والدة الإله، او الـ”ثيوطوكس” باليونانية القديمة، ترتسم ملامح “أمّ النور الحقيقي”.
وتعود خوري الى المجمع المسكوني الخامس (553م)، الذي “ورد في قانونه الثاني ان العذراء مريم دائمة البتولية”. تثير اسئلة، تفتش، تنكش القلب بحثا عن الايمان. وجوابها “لا مجال للشك في البتولية الدائمة لمريم، لان هذا الامر جزء لا يتجزأ من حقيقة التجسد”. وتدعّمه بشتى اقوال آباء الكنيسة، لتقارع التشكيك باليقين. “الطقوس الارثوذكسية خير دليل على بتولية مريم… ونشدد على انها امّ وبتول معا، لاننا لا نستطيع ان نحلل بالعقل والمنطق السر الذي يتجاوز المنطق ويقلب نظام الطبيعة”.
تعلّم خوري عن مريم، بأسلوبها المريمي الخاص، بارثوذكسية انطاكية ورعة، مستقيمة. 240 صفحة تريد بها ان تقرّب الارض برمتها من السيدة، ان تصرخ باسمها، ان تدخل عالمها وتسكنه. تستحضر تاريخ مريم، حتى قبل ان تولد. والداها، يواكيم وحنة، “جدّا المسيح”، ها هما، ويلهمان بقصتهما رسامي الايقونات.
بعناية كبيرة، اختارت خوري عددا من الايقونات، نحو 24 فقط. وتدعها تخبر الحكاية الإلهية. ايقونات ارثوذكسية، اثرية قديمة، روسية ويونانية وبيزنطية ترسم “والدة الإله”. كل منها، محطة في حياتها، نصّ من الانجيل، غنى في الرموز الدينية، بحر صلاة لا ينتهي: الحبل بها، ميلادها. ووقع الاختيار على ايقونة من مطلع القرن الثامن عشر، “شرقية شديدة الوضوح تنسب الى الرسام حنانيا الحلبي… الاسلوب الشرقي واضح في الوانها المتنوعة وغنى تفاصيلها والفرش المزخرف الذي يزينها”.
انها التفاصيل التي تحبها خوري وتستوقفها في كل ايقونة، قبل ان تبرزها في لحظات تأمل، لتنسج الحكاية عبرها. وكل مرة، تنقش صلاة، توقّع بها فرحها، كما فعلت مع دخول السيدة الى الهيكل. الايقونة من “المدرسة الكريتية من اواخر القرن السابع عشر”. و”ها هي مريم تصعد درجات الهيكل”. نصعد معها، و”تبدو بصورة فتاة صبية بحجم اصغر. وهكذا نراها دوما في الايقونات الارثوذكسية التي تعتبر مريم العذراء، منذ طفولتها، الكلية القداسة والجة الإله”.
النشيد “الذي تحوّل ثورة”
تشرح خوري، تتعمق في القراءة، وتنبش اسرار الوجه بما يكمّل الصورة ويوسّع المعرفة. انه الاسلوب الذي اعتمدته في الكتابة عن تاريخ مريم، من خلال ايقوناتها. 24 فصلا، وكل منها يبحر الى لقاء مريم وتذوق رفقتها. بشارة والدة الإله، و”الايقونة روسية من القرن السابع عشر- متحف تريتياكوف”، و”كانت تُرسَم في الماضي على الباب الملوكي”. نشاهد الملاك جبرائيل، وننظر الى وجه مريم وهو يتغير لحظة البشارة التي حملها اليها.
كلما تقدمت الرحلة، تتسع الحلقة اكثر. لقاء مريم ونسيبتها اليصابات، “والايقونة يونانية”. نسمع الحديث بينهما، ويرتفع صوت مريم ليهتف بـ”النشيد” الذي “تحوّل ثورة، عاصفة تقلب الاحكام والموازين رأسا على عقب”، على ما تكتب خوري. وتقف مذهولة امام تلك “النقية”، وتنساب منها الكلمات سخيّة، لتصبح طقسًا.
هكذا في كل فصل، وامام كل ايقونة. يوسف الخطيب: “ايقونة يونانية مع اطار يروي قصة حياته”. الميلاد: ايقونة من دير القديسة كاترينا-القرن الثاني عشر، و”تبدو فيها مريم جالسة كالملكة المحاطة بالارجوان، وتسترجع كل ما قيل عن طفلها المولود البهي…”. “سجود المجوس” للرسام الكريتي ميخائيل داماسكينوس (القرن السادس عشر)، و”التحفة فنية، نظرا الى نقاوة الخطوط ودقة الابداع ورقة الوجوه… ونرى عن يسارها مريم تحضن طفلها”. ونجد ايضا “مريم المرضعة” مع القديس نيقولاوس (كنيسة القديس نيقولاوس- طرابلس- القرن التاسع عشر).
وجها لوجه
تغوص خوري في حياة مريم، وتُجلِس القارىء امامها طويلا. المقابلة وجها لوجه، والسيدة تحمل طفلها الإلهي، تعانقه، تقبله، تدل عليه. استشهاد اطفال بيت لحم، الهروب الى مصر، سمعان الشيخ حامل الإله، يسوع بين المعلمين وخوف مريم وقلقها عليه. محطات تتمعن فيها خوري. وتذهب تلقائيا الى عند القديس لوقا، كاتب “ايقونة والدة الإله”، لتغرف عميقا من الوجه، قبل الوقوف امام “العليقة الملتهبة” غير المحترقة (للرسام المعلّم دامسكينوس) و”مريم جالسة ومتصدرة وسط العليقة الخضراء، تخترقها الالسنة النارية، ويسوع المسيح في حضنها، يبارك…”.
اتكاءة عند سيدة بلاشرن (ايقونة من القرن السابع عشر)، وشجرة يسى (حنانيا المصور- 1710-المدرسة الحلبية-دير سيدة البلمند)، قبل ان تتمتم الشفاه ان “البرايا باسرها” (ايقونة من متحف كورفو) “تفرح بك يا ممتلئة نعمة…”. ومع ايقونة سيدة فلاديمير “العجائبية” (القرن الثاني عشر-موسكو)، و”هي اهم ما رُسم من ايقونات والدة الإله”، نصل الى “قمة التواصل بين الله والبشر، في سر التجسد الحاصل بمريم”.
وجه مريم… مع كل الالقاب التي مُنحت. “سيدة ينبوع الحياة (ايقونة من القرن السابع عشر)، سيدة ايفيرون (البوابة- القرن التاسع- جبل آثوس)، وصولا الى “رقاد والدة الإله” (ايقونة للرسام دوشيو-القرن الثالث عشر)، و”ايقونة الشفاعة” (1813- الرسام ميخائيل الكريتي-دير سيدة صيدنايا- سوريا). وأمامها تفيض الصلاة: “يا شفيعة المسيحيين غير الخازية، الوسيطة لدى الخالق غير المردودة، لا تعرضي عن اصوات طلباتنا، نحن الخطأة…”.
ايما غريب خوري “عضو في حركة الشبيبة الارثوذكسية منذ 1957، حيث تدربت على درس الكتاب المقدس”، وفقا للتعريف بها. ولها مؤلفات اخرى، منها الايقونة شرح وتأمل، الاقمار الثلاثة وآباء القرون الاربعة الاولى، المرأة في الكتاب المقدس من حواء الى مريم، يسوع الناصري ملك الملوك والكاهن الاعظم…