كلمة الدكتور جورج تامر في المنتدى الحركي الثاني – “من أجلهم أقدِّس ذاتي … لئلاّ يهلك أحد” – المحبّـة الممتدّة

mjoa Tuesday April 7, 2009 220
قامة شمخت منارة على شاطئ ميناء طرابلس، طافت بالنور على مدن الشمال وقراه، حطّت في حمى بردى، قبل أن تستقرّ في رحاب عكّار، وتشعّ في أرجاء “الوادي”، وتغسل ساحل طرطوس بالضياء. مصباح حامل النور، يتّقد به، كأنّه “كوكب درّيّ” (سورة النور 35:24)، تحسبه النور، وليس هو إيّاه، بل في شفافيّته اتّحد به، اتّحادًا عجيبًا. لم يحجب النورَ قتامٌ في جبلته، ولم يُشحِبه غبار على مسحته، صفاؤه أدّى بالنور إلى أن يضيء للمستنيرين ببهاء أشدّ. صار نورًا على نور.
النور الذي كان على مساس بهذا الرجل لا يُحبَس ولا ينحصر، إنّما يفتّش لنفسه عن سبل يجري فيها، ومصابيح. كلٌّ من الناس فيه شيء منه، قليل أو كثير. ما من جبلة تخلو منه. هذا النور هو تصوّريّة الله في الإنسان. إنّه الفطرة الحقّ التي في كيان كلّ إنسان، بل هو، بالأحرى، جوهر جوهره. كلٌّ فيه هذا النور على مقدار. وهذا ما يدركه البعض، والبعض لا يدركون. بعض المدركين يذكون ما فيهم منه، على درجات. وبعضهم يهملونه فتغشاه الظلمة ويخفيه الغبار. والنور لا يمحى مهما كثفت الضبابيّة حوله. مهما خَفُت، مهما شحّ، يستمرّ موجودًا، قابلاً للتوهّج، ولولم نراه مشعًّا.

إنّ السبل التي يجري فيها هذا النور في حياة العالم عديدة، لا تحصى. كثرتها ناتجة من لامحدوديّته. هي كثرة المواهب التي مُنِحت للناس. وما من امرئ بلا موهبة. مهما تعدّدت مجاري النور، فهي تصبّ، بلا استثناء، في خدمة الإنسان. فالنور يسعى إلى النور. طبيعته فيضٌ، ليس في وسعه إلاّ أن يمتدّ. وإن انحسر، فإلى حين.
بولس بندلي توقّد النور فيه رعاية. والرعاية حبّ، كما يبوح به قول يسوع لبطرس. إنّه حبٌّ لله، وحبّ للناس، يتقاطعان صليبًا. الرعاية، والحبّ، والصليب ثالوث غير منفصل. هذا الثالوث يظهر كلّما رمى واحد منّا نفسه في هموم الآخرين وآلامهم، واحتضنها في ذاته، غير حاسب حسابًا لشقاء وضنى، كلّما بلغ البذل حدّ انسكاب النفس عطاءً حرًّا، بلا حدّ. ثالوث الرعاية، والحبّ، والصليب ظهر جليًّا في بولس بندلي. كان سمته المميِّزة وطابع حياته.
لن يسعني، في هذه العجالة، أن أفصِّل كيف ترجم بولس بندلي هذا الثالوث عمليًّا في ما قال وفعل. ما من حياة تختصر في كلمات. فكم، بالحريّ، يستحيل ذلك، إن كانت حياةً كحياته. سأحاول في ما يلي أن أبرز لكم بعض الملامح الرئيسة في الوجه الذي تجسّد فيه ثالوث الرعاية والحبّ والصليب في هذا الرجل:
–    أوّل ما يلفت عارفَه سعيه الدؤوب إلى الاقتراب من الناس، إلى إلغاء البعد بينه وبينهم، مع حفظ مسافة واحدة من الجميع. هذه المسافة التي كان يحرص على حفظها ليست لتبعد عنه مضايقة، أو تحفظ له مقامًا، بل هي بسبب حرصه على أن يحفظ حرّيّة من يحبّهم ويرعاهم. فالرعاية ليست بالتسلّط، ولا بخنق المحبوب. والصليب، على قوّة معناه، يحفظ لهؤلاء الذين يصلب الرعاةُ ذواتهم من أجلهم حريّتهم التامة، لا يُنتقَص منها شيء. بهذه الحرّيّة قد يصير الإثنان، أو أكثر، واحدًا، من غير أن يمّحي الأحد في الآخر. حبٌّ مقرِّب كهذا، على قوّته، لا يطمح إلى إلغاء الآخر، بل بالأحرى، إلى الحفاظ عليه وإنمائه. ويصير هذا باحترام، بلا قيد أو شرط، ما يجعل الآخر يطمئنّ ويستقرّ إلى حضن حبّ الراعي.
–    الحرص على الاقتراب الحادب الحاني يستلزم حضورًا دائمًا ومرافقة مستمرّة. هذا ما جاهد هذا الراعي من أجل تطبيقه، حتى آخر رمق. لم تكن المسافات تمنعه من القيام بذلك. كان يمشي ميلين مع من قد يسأله، أو قد لا يسأله، أن يرافقه ميلاً واحدًا. وهذا نابع من التزام صميميّ بالآخر. بهذا الالتزام كان يرى في كلّ شخص وديعة ائتمنه الله عليها. الخبز المقدَّس الذي يُعطى للكاهن وديعة ليحافظ عليها ليس محصورًا في الليتورجيا، إنّما يمتدّ في الناس. كلُّ واحد منهم جزء من هذا الخبز ـ الوديعة. والربّ شاء أن تكون الجماعة جسده الواحد.
–    أن تدرك أنّ كلَّ واحد ممّن أنت على صلة بهم وديعة قدسيّة، يعني أن تعرفهم، واحدًا واحدًا، معرفة كيانيّة، ثاقبة، محيطة. إنّ الراعي الصالح، بحسب إنجيل يوحنا، يعرف رعيّته بأسمائها. والاسم يدلّ في لغة الكتاب المقدَّس على الشخصيّة. هو رمزٌ لقوام الشخص. الوجه الرعائيّ الذي تجسّد في بولس بندلي يتحسّس بكلّ شؤون الشخص الروحيّة والمادّيّة، الاجتماعيّة والعلميّة، ويهتمّ في أن يعرف تفاصيلها.
–    هذا يقترن باهتمام بالكلّ، بلا استثناء، ليس فقط بأصحاب المواهب. الوجه البشع يضاهي في عيني رعاية كهذه أحسن الوجوه جمالاً. الكلُّ سواسية في الحسن إذا كان الحبّ هو الرائي. والمواهب، كما الأوجاع، محطّ عطف واهتمام. ما يبدو لنا نقصًا ليس مدعاة ليُرذَل صاحبُه. على العكس. هو حبيب خاصّ لذاك الذي ظهر لنا في لحظة مميَّزة من لحظات التاريخ، مصلوبًا مشوَّهًا، لا حسن فيه يشتهى، ولا بهاء.
–    إلى جانب العناية المحيطة بكلّ من يحتاج عونًا، أيًّا كان نوعه، يتّسم وجه بولس بندلي الرعائيّ بالانفتاح على مختلف الأطراف في الجماعة المقام عليها، وخارجها، بلا فرق في المحبّة. رأى القبس النورانيّ في الكلّ، أفي كنيسته كانوا، أم لا. إلاّ أنّ هذا الانفتاح لم يدفع به إلى أن يتخلّى عن شيء من هوّيّته الأرثوذكسيّة، أو عمّا آمن بأنّه حقّ. وهذا، لعمري، من مقوّمات الانفتاح الأصيل. فالانفتاح لا يعني الميوعة وترجرج المواقف. إنّه موقف راسخ على أسس ثابتة، وانطلاقة هوّيّة ناضجة، تعي مكامن القوّة والضعف فيها، وتطلّ بذلك على الآخر، أيًّا كان، في رغبة صادقة في الحوار والتواصل. في هذا يكون الإنسان، أيّ إنسان، بصرف النظر عن معتقده، محور اللقاء. ولأن الإنسان هو مركز هذه الرؤية، وجب على الراعي، في الوقت نفسه، أن يحمي خرافه من الضلال ويذبّ عنهم الذئاب الخاطفة.
0 Shares
0 Shares
Tweet
Share