الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، المادة 19:
«لكلّ شخص الحقّ في حرّيّة الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحقّ حرّيّة اعتناق الآراء من دون أيّ تدخّل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأيّة وسيلة كانت من دون تقيّد بالحدود الجغرافيّة».
«لكلّ شخص الحقّ في حرّيّة الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحقّ حرّيّة اعتناق الآراء من دون أيّ تدخّل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأيّة وسيلة كانت من دون تقيّد بالحدود الجغرافيّة».
مقدّمة
في فترة الثمانينات تطوّرت وسائل الاتّصال بشكل كبير، واستفادت وسائل الإعلام من هذا التطوّر، فانتشرت المحطّات الفضائيّة. ثمّ ولدت تكنولوجيا الإنترنت في مطلع التسعينات، وبدأت عمليّة دمج تكنولوجيا الاتّصال الهاتفيّ، بتكنولوجيا الحاسوب (الكومبيوتر)، وعمليّة بثّ الصورة والصوت والكلمة بشكل رقميّ وبسهولة فائقة، كما شرعت وسائل الإعلام العربيّة تجد لها قدمًا في عالم البثّ الفضائيّ. وتكاثرت إعلانات الشركات لتسهيل اشتراك الزبائن في باقات المحطّات الفضائيّة، وبأسعار كانت تتدنّى عبر السنين.
عبر متابعتي تحليل ظروف عمل وسائل الإعلام، والأدوات التي تستخدمها هذه الوسائل لنقل الأخبار، لاحظت أنّ تكاثر وسائل الإعلام وتطوّر تقنيّاتها لا يترافق بالضرورة مع حرّيّة الوصول إلى معلومات أكثر قيمة، ولا مع حقّ المواطن في الحصول على معلومات صحيحة، ولا مع قدرة المواطن على ممارسة حرّيّة التعبير عن رأيه بشكل أفضل. بل إنّ وسائل الإعلام قد تؤدّي دورًا مناقضًا لحرّيّة التعبير. وبما أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله، والحرّيّة هي إحدى مكوّنات هذه الصورة الإلهيّة، فإنّ ما يمسّ بحرّيّة التعبير، وحرّيّة الفكر معها، يمسّ بصورة الله في الإنسان (الفصل الأوّل).
لهذا كان من الضروريّ، بنظري، القيام ببحث حول العلاقة القائمة، اليوم، بين وسائل الإعلام وحرّيّة التعبير، على الصعيد العالميّ وعلى الصعيد اللبنانيّ معًا، بحيث نفهم بشكل واضح وضعَ حرّيّة التعبير داخل القطاع الإعلاميّ، وما هي الأوضاع التي تضغط على المسؤولين في وسائل الإعلام وعلى حرّيّتهم في التعبير عن فكرهم، وتؤثّر في إمكانيّة تحمّلهم مسؤوليّتهم في نقل حقيقة الواقع ونقده، كما وتساهم إلى حدّ كبير في شلّ قدرتهم على أن يكونوا سلطة رابعة تراقب سلطات الدولة الأُخرى. وكان من الضروريّ أن نحاول أن نستنتج برامج العمل الحقيقيّة التي لدى مالكي وسائل الإعلام والمسؤولين فيها، متتبّعين تطوّر الواقع الإعلاميّ الحاليّ المعولم والمتركّز بأيدي قلّة من المتموّلين، ومحلّلين الأوضاع التي تساهم في سيطرة مجموعة صغيرة من الناس على وسائل الإعلام المختلفة (الفصل الثاني).
إنْ كان لمالكي وسائل الإعلام من برنامج عمل غير مُعلَن، فالخطوة التالية كانت تقتضي بحثًا في الوسائل المتّبعة في وسائل الإعلام لـ«تدجين» المواطنين وإقناعهم ببرامج سياسيّة واقتصاديّة قد لا تصبّ في مصلحتهم ، وإنّما في مصلحة القابعين خلف وسائل الإعلام وفي مصلحة شركائهم، مستحضرين في بحثنا أمثلة حيّة من العالم ومن الواقع اللبنانيّ (الفصل الثالث).
إلاّ أنّ بحثًا في حقّ الإنسان في حرّيّة التعبير، يبقى ناقصًا إن لم نتطرّق إلى حقّ الإنسان في العيش الكريم. ذلك بأنّ حرّيّة التعبير لا نفع منها إذا لم يكن هناك من إنسان ليعيشها. لذلك فطَرْحُ هذا الكتاب هو ضرورة ربط حقّ الإنسان بحرّيّة التعبير بحقّه بالعيش بكرامة، أي بحقّه في الطعام والشراب والصحّة والعمل… متجاوزين هكذا مأساة الإنسان خلال القرن المنصرم: أن نعطيه «الخبز» (بالمعنى الواسع للكلمة أي بمعنى الطعام والشراب والصحّة والعمل…) ونسلبه في الوقت عينه حرّيّة تعبيره عن فكره بشكل قمعيّ، كما حدث في الاتّحاد السوفياتيّ السابق؛ أو أن نتركه يعبّر عن رأيه بينما نسعى لتدجينه لكي يقول ما نريده أن يقول، ويوافق على ما نريده أن يوافق عليه، تاركين في الوقت عينه المليارات من الناس مرميّين في بؤس حقيقيّ، في قمعٍ مادّيّ ومعنويّ، كما يحدث في الدول الديمقراطيّة الغنيّة، وفي لبنان. هذا التوازي بين ضرورة الخبز وضرورة الحرّيّة، الذي سبق وعبّر عنه مفكّرون كالفيلسوف الأرثوذكسيّ نيقولا بردياييف، يحلّله هذا الكتاب عبر دراسة واقع «الخبز» وواقع حرّيّة التعبير، في العالم وفي لبنان، ودراسة العلاقة بينهما، ملقيًا الضوء على مفهومي الديمقراطيّة والاقتصاد «الحرّ»، أو اقتصاد السوق. (الفصل الرابع).
أمام واقع التدجين المبرمَج وواقع «الخبز» السليب، لا يترك الكتابُ القارئ من دون أن يعرض له عناصر مقاومة التدجين ومقاومة التفقير حول العالم (الفصل الخامس). وإنْ كان مجرّد معرفة وسائل التأثير التي يستعملها المسؤولون عن وسائل الإعلام (في الفصلين الثاني والثالث) تساهم في وعيٍ أفضل للواقع الإعلاميّ، وفي التحرّر من محاولات التدجين، إلاّ أنّ عرض أساليب المقاومة المختلفة التي تتّبعها جمعيّات غير حكوميّة، ومن منتديات اجتماعيّة وثقافيّة، ومن نقابات، تتيح مجالاً لاستلهام تلك الأساليب، ولرؤية أنوار الله الحاضرة في هذا العالم رغم العتمات التي نراها يوميًّا في وسائل الإعلام. كما يعرض الكتاب بعض التوجّهات التي يراها الكاتب أساسيّة في الإطار الإيمانيّ، والكنسيّ بشكل خاصّ. ويطلّ إلى طرح إعادة تنظيم المجتمع للتركيز على خلق أطرٍ تُنمّي الإنسان المُشارِك بدل الإنسان المعزول، وتحقّق مجتمع المشاركة بدل المجتمع الرأسماليّ اللاهث وراء الربح الماليّ؛ مركِّزًا على الأساليب والأمثلة العمليّة، رابطًا إيّاها مباشرة بالبُعد الأخرويّ المسيحيّ الذي يعمل من أجل أرض جديدة وسماء جديدة يشكّل ملامحها الروح القدس في هذا العالم، إلى أن تتجلّى الخليقة في اليوم الأخير. ويربط الكتاب، أخيرًا، بين أساليب المقاومة هذه وبين الرؤية المسيحيّة للإنسان كمخلوق يسعى إلى التألّه في العالم، بحيث يكون النضال من أجل حرّيّة التعبير نضالاً إيمانيًّا، مرتبطًا بالعمل والحقّ، مرتبطًا بعيش الإنسان اليوم على هذه الأرض بكرامة، من دون أن يُلغي الاجتماعيّ الإلهيّ، ولا أن يسحبنا الدينيّ إلى الانطواء الطهريّ الفرّيسيّ.
الكتاب يطرح ذاته كدليل يستطيع القارئ، مؤمنًا كان أو غير مؤمن، أن يتوسّله للخروج، إلى حدّ ما، من العالم الوهميّ الذي تبثّه وسائل الإعلام بهدف تمرير مشاريع اقتصاديّة وسياسيّة استغلاليّة، فتُتاح له فرصة إعادة النظر بطريقة تلقّيه المعلومات التي تبثّها هذه الوسائل، من أجل الوصول إلى قراءة الواقع بعينين جديدتين. وإن كان الكتاب يعالج العلاقة بين الإعلام وحرّيّة التعبير، إلاّ أنّه يربط حقّ الإنسان بحرّيّة التعبير بحقّه بالـ«خبز»، أي بحياة كريمة على هذه الأرض، في رؤية مسيحيّة تؤمن بأنّ الكلمة تجسّد، وترى الإنسان كُلاًّ واحدًا يحيا بالاستجابة لمحبّة الله بمحبّة، هذه المحبّة التي تقيمه مُحبًّا البشر وخادمًا لهم، متابعًا مع الله خلق الملكوت في هذا العالم، الملكوت الذي دشّنه يسوع على خشبة. الكتاب يقدّم ذاته دعوةً للمسيحيّين، ولكلّ مخلصٍ للإنسان، كي يلتزموا الإنسان كلاًّ واحدًا، مخلوقًا مدعوًّا إلى تحقيق حرّيّته، «حرّيّة أبناء الله»؛ وكي يقاوموا مع إخوتهم في المواطنيّة بُنى التدجين والتفقير القائمة في المجتمع الذي فيه يعيشون، طالبين «المدينة الآتية» بمحاولة تحقيقها «الآن وهنا»، لأنّ الملكوت هو بيننا. وما هذا إلاّ مسيرة جلجلةٍ قياميّة.
خريستو المرّ
بيروت 17 حزيران 2005
بيروت 17 حزيران 2005