“سرّ الأخ”

mjoa Tuesday February 3, 2009 378

“سرّ الأخ” هو عنوان كتاب تضمّ صفحاته سيرة القدّيسة الأمّ ماري (سكوبتسوف) وبعضًا من تعاليمها. وهذا الكتاب، الذي صدر عن “تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة”، هو كتاب خارج عن المألوف، بكلّ ما للكلمة من معنًى. كلّ حرف من حروفه صدمة، صدمة تفضح عتاقتنا وتخاذلنا وانشغالنا التافه. إنّه، باختصار شديد، قصّة امرأة تزوّجت مرّتين، وأنجبت. ثمّ قرّرت أن تعطي الفقراء حياتها كلّها. فترهّبت في هذا العالم، لتخدم أوجاعَ بشرٍ، آمنت بأنّهم جميعًا، من دون أيّ تمييز، “إخوة يسوع”.

من صميم هذه السيرة، يصادفك، في هذا الكتاب، ذكر أشخاص عرفهم بعض من تعايشهم شخصيًّا (ومنهم، مثلاً، الأب ليف جيلّه)، وعرفتهم أنت عبر ترداد أسمائهم أو قراءة بعض مؤلّفاتهم المعرّبة. وإن كنتَ تعرف أنّ بعضهم من كبار اللاهوتيّين في تاريخك الحديث، فيسهل عليك أن تغبّط وعي من سحرتهم القداسة في انشغال هذه المرأة الفريد، أي المحبّة التي هي العلم كلّه. فالعلم، أوّلاً وأخيرًا، هو أن تحبّ. ومن هذا العلم أن تفرح بالمحبّة أنّى رأيتها تشرق، وتتعهّدها كما تتعهّد صحّة قلبك.

في هذه السيرة قضيّتان ترتبط إحداهما بالأخرى. الأولى أنّ صاحبتها سُجنت في معسكر نازيّ، وأعدمت بالغاز السامّ “في يوم من آذار العام الـ1945″، وأعلنت الكنيسة الروسيّة قداستها (مع ثلاثة من رفاقها) في العام الـ2004. والثانية أنّ من تتكلّم عليها راهبة تحمل المسيحيّة إلى أبهى معانيها بإعلائها فرادة إله أحبّ العالم “بجنون” كلّيّ.

سأبدأ بالقضيّة الثانية. ويعنيني، بدءًا، أن أعترف بأنّ هذه السيرة، التي أرجو أن تجد في كنيستنا صدًى طيّبًا، لم تجعلني أخرج على مناصرتي الرهبنة التقليديّة التي تقوم على التزام شركة دير. لم أسمح لـنـفسي، فـي سـرّ نــفسي، فــيما كنــت أقـرأهـا وبـعـد أن ختمتها، بأن أتمنّى أن يترك الرهبان والراهبات أديرتهم وينتهجوا نهج هذه المرأة العملاقة التي ترميك قراءة سيـرتهـا علـى ركبتيك، لتتـابـع ما تفـعلـه سـاجـدًا، وتبكـي خطاياك القاتلة. فإيماني الثابت أنّ الكنيسة مواهبيّة، أي أنّ روح الله أعطى كلاًّ منّا أن يساهم في خدمة كنيسته ونموّها وازدهارها. وإن تابعت الاعتراف، فأذكر أنّني، كلّما سمعت بعض الأصوات التي تتمنّى أن يترك الرهبان مواقعهم ليخدموا في العالم، كنت أصاب بانزعاج شديد. وكان ردّي الدائم أنّه لا يليق بنا أن نطلب من غيرنا ما يجب أن نعرف أنّ الله يطلبه منّا جميعًا. فللرهبان خدمتهم، ولكلّ مؤمن خدمته.

الأمّ ماري (سكوبتسوف) لا تقول لنا اتركوا مواقعكم، بل أحبّوا في مواقعكم. وأحبّوا، تعني انزلوا، في الأمكنة التي أنتم فيها، إلى أوجاع الإنسان، أيّ إنسان سرق الحزن (والمرض والجوع والعري…) الفرح من عينيه. تعني افهموا أنّكم لستم، وحدكم، في الأرض. إن كنتم تأكلون وتشربون، فاذكروا أنّ ثمّة جياعًا وعَطَاشى. وإن كنتم تلبسون ثيابًا تقيكم حرّ الصيف وبرد الشتاء، فثمّة أناس لا يملكون ما يستر عريهم. وإن كنتم قادرين على أن تستشفوا، فثمّة من لم تلمس أجسادَهم الموجوعة يدُ طبيب. وإن كنتم قد برّزتم في العلم، فثمّة أمّيّون تعجّ بهم أرضكم. وإن كنتم خارج السجون، فثمّة مسجونون. أي تعني: افهموا أنّكم بنو آب واحد ينتظر أن تتعهّدوا أوجاع إخوتكم، وتقوّضوا أساس كلّ قهر في الأرض.

هذا كلّه يعني أنّ هذه السيرة لم تُكتب، لنسقط في استنتاج أنّ ما يريده الله، من عمل الخير، يخصّ بعضًا من دون غيرهم. فمن كَتبها، أرادنا أن نستقرّ في قناعة أنّ ما فعلته الأمّ ماري وعلّمته يعنينا جميعًا، في أيّ موقع كنّا. وفي الواقع، كلّ سير القدّيسين تعنينا. وتعنينا تعني، ممّا تعني، أنّ من أحبّوا الله، في أيّ نهج اختاروه، هم دعوة إلى أن نذكر أنّ الله ما زال يريد أن يعمل فينا رضاه. ليست سير القدّيسين روايات عن أبطال من عهود ولّت، أبطال يصعب تكرارهم. ليست أساطير. فإنّما سير القدّيسين هي سيرة الله الذي ما زال يطلب ودّنا. وإن رأينا أنّ القدّيسين يفوق ما فعلوه إمكاناتنا الوضيعة، فرؤيتنا حسنة كلّيًّا. فلقد أوجد الله لكـلّ منّـا عيـنـيـن، لنـرى القـداسة عالية دائمًا، عالية كلّيًّا. عالية، لا لنقول إنّ ما نراه يستحيل أن ننفّذه نحن، بل لنجتهد في الاتّكال على القادر على أن يحقّق، فينا، كلّ ما يظهر مجده.

أمّا القضيّة الأولى، فترتبط ارتباطًا وثيقًا بما ذكرناه. فهذه السيرة العجيبة، التي تروي قصّة قدّيسة معاصرة، يجب أن تجعلنا على يقين أنّ كلّ شأن المسيحيّة أن نقتنع بأنّ القداسة تخصّ عصرنا، كما كلّ عصر. معظمنا يعرف أنّ ثمّة بيننا من يعتقد أنّ القداسة محفوظة في خزائن الماضي. وتسمع بعض من يحيون بين ظهرانينا يسألون: هل ثمّة قدّيسون (والمقصود: أرثوذكسيّون) في زماننا الحاضر؟ هذه الرواية تنزل إلى ظلم السؤال، وتجيب: نعم. ولنفهم جميعنا أنّ هذه الإجابة لا تحكمها الدلالة على من تقدّسوا فحسب، بل إنّما تذكّرنا بما يخصّنا أيضًا. كلّما عرفنا أنّ ثمّة شخصًا، أعلنت الكنيسة قداسته، يجب أن نمجّد الله في أمر من أحبّوه، وتاليًا أن نذكّر قلوبنا بأنّه ما زال يدعونا جميعنا، رجالاً كنّا أم نساءً، إلى أن “نشترك في قداسته”.

يبقى، في الأخير، أن نضمّ صوتنا إلى صوت الإخوة الذين نقلوا هذا الكتاب إلى لغتنا العربيّة، ونرجو أن تصل “رسالته القيّمة إلى كلّ فرد وبيت وكنيسة”.

نقلاً عن رعيتي – العدد الخامس 2009.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share