الإرشاد الرسوليّ وفلسطين

الأب جورج مسّوح Wednesday October 3, 2012 162

أين فلسطين في الإرشاد الرسوليّ للبابا بينيديكتوس السادس عشر “الكنيسة في الشرق الأوسط”؟ سؤال يفرض نفسه على مَن تهمّه قضيّة الإنسان الفلسطينيّ المقيم تحت الاحتلال أو المهاجر من دون أمل في العودة. لكنّ الجواب واضح، غياب كامل لفلسطين وأهلها، وقبول للواقع الصهيونيّ في مهد المسيحيّة.

يتناول الإرشاد الرسوليّ وضع المسيحيّين في الشرق الأوسط من باب تسليط الأضواء على “الأصوليّة العنيفة التي تدّعي قيامها على أصول دينيّة” (الفقرة 29)، وهو بذا يعني الحركات الإسلاميّة المتطرّفة، وهذا صحيح ولا ننكره. لكنّه، في الوقت عينه، يغفل الإشارة إلى الاحتلال الصهيونيّ الذي كان الدافع الأساسيّ إلى هجرة المسيحيّين من مهد المسيحيّة.

قبل ذلك، يشير الإرشاد بشكل ملتبس إلى كون اليهود “الشعب المختار” (الفقرة 20). وإذا كان صحيحًا وفق العهد القديم أنّ الشعب اليهوديّ هو “شعب الله المختار”، فبعد مجيء المسيح وقضائه على العنصريّة اليهوديّة وبدئه عهدًا جديدًا مع الأمم كلّها انتفت الصفة المختارة عن اليهود، وأضحت هذه الصفة ملازمة للكنيسة الجامعة: “أمّا أنتم فإنّكم ذرّيّة مختارة، وأمّة مقدّسة، وشعب اقتناه الله. لم تكونوا بالأمس شعب الله، وأمّا الآن فإنّكم شعبه” (رسالة بطرس الأولى 2، 9-10). الالتباس في الإرشاد الرسوليّ يتأتّى من عدم الإشارة إلى بطلان مقولة “اليهود شعب الله المختار” بعد مجيء المسيح.

يتبنّى الإرشاد مقولة هجينة هي “الحضارة اليهوديّة-المسيحيّة” (الفقرة 23)، ويمتدحها من حيث كونها قدّمت للبشريّة “سبيكة نبيلة”، ويصل إلى حدّ الاعتراف بأنّ الشعبين (اليهوديّ والمسيحيّ) “نالا البركة نفسها والوعود بالحياة الأبديّة”. الكلام عن الحضارة اليهوديّة-المسيحيّة أو عن اللاهوت اليهوديّ-المسيحيّ كلام ملتبس، ولا يتوافق مع التراث المسيحيّ، شرقًا وغربًا. وقد ترافق هذا الكلام مع بدايات الاستعمار الصهيونيّ في فلسطين استجداءً لدعم الحركات المسيحيّة المتطرّفة للحركة الصهيونيّة. كما يستعمل هذه المقولة الساعون إلى حلف يهوديّ-مسيحيّ ضدّ الإسلام والمسلمين.

يتمنّى البابا في الإرشاد الرسوليّ “أن يتمكّن مؤمنو الشرق الأوسط أن يصبحوا هم أنفسهم حجّاجًا في الأماكن التي قدّسها الربّ نفسه، ويستطيعوا الوصول بحرّيّة وبدون تقييد إلى الأماكن المقدّسة”. مؤمنو الشرق الأوسط لا يتوقون إلى الحجّ وحسب، بل ينظرون إلى تحرير الأماكن المقدّسة من مغتصبيها، ولا يريدون منّة أحد بتأمين العبور إلى تلك الأماكن. ثمّ أنّ الفلسطينيّين يريدون حقّ العودة إلى ديارهم المسلوبة والإقامة فيها، لا مجرّد الحجّ أو الزيارة أو السياحة، وهذا ما أغفله الإرشاد الرسوليّ.

يشكّل الإرشاد الرسوليّ، في ما يتعلّق بالموضوع الفلسطينيّ، تراجعًا عن الوثيقة التاريخيّة “وقفة حقّ” (15 كانون الأوّل 2009) التي أصدرها مجموعة من الفلسطينيّين المسيحيّين المنتمين إلى الكنائس الفلسطينيّة كافّة، بما فيها التابعة للفاتيكان. أمّا أهمّ ما ورد في هذه الوثيقة فرفضها مقولة “اليهود شعب الله المختار”، وإقرارها بحقّ الفلسطينيّين بالمقاومة “فلو لم يكن الاحتلال لما كانت هناك مقاومة”. كما تدعو الوثيقة المسيحيّين إلى الثبات في مقاومة الاحتلال الصهيونيّ، “فالمقاومة حقّ وواجب على المسيحيّ”.

لن ننساك يا فلسطين، ولن ننسى أهلك، هذا عهد المسيحيّين العرب لك ولهم.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،3 تشرين الأول 2012

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share