واقع العالم الأرثوذكسي اليوم

ج. غ Wednesday December 5, 2018 917

تناقلت المواقع الإخباريّة الكنسيّة خبراً، مفاده أنّ المجمع المقدّس للبطريركيّة المسكونيّة قد أقرّ في جلسته الأخيرة نصّ طرس الاستقلال الذاتيّ “للكنيسة الأوكرانيّة الواحدة” الذي يُزمع استحداثها ككنيسة وطنية في اوكرانيا. وتأتي هذه الخطوة تتويجاً لمسار أطلقته القسطنطينيّة في مطلع نيسان من هذه السنة. ويُنتظر أن ينتهي بعقد مجمع عامّ، بحسب مصادر كنيسة القسطنطينيّة، يضمّ ممثّلين عن الكنيستَيْنِ المنشقتَين (أي ما يُعرف ببطريركية كييف والكنيسة الأوكرانية المستقلة) اللتين قبلتهما البطريركيّة المسكونيّة في الشركة الكنسيّة، وعن الكنيسة الأرثوذكسيّة الشرعيّة التابعة لبطريركيّة موسكو، ويقوم هذا المجمع بانتخاب رئيس هذه الكنيسة. وفي وقت لم يحدَّد فيه بعد تاريخ انعقاد هذا المجمع، عبّر غالبيّة مطارنة الكنيسة الشرعيّة الأوكرانيّة، في اجتماع عامّ، أنّهم لن يشاركوا في هذا المجمع، ما عدا مطرانًا واحدًا منهم عبّر بصراحة أنّه سيشارك فيه.

وقد قادت المسألة الأوكرانيّة، التي تعتبر بحسب وصف غبطة رئيس أساقفة ألبانيا أنستاسيوس “حقل ألغام” للأرثوذكسيّة الجامعة، إلى قطع للشركة كامل بين كنيستي موسكو والقسطنطينيّة، ليس على مستوى الإكليروس بل وعلى مستوى المؤمنين أيضاً، بعد القرار الذي اتّخذه مجمع القسطنطينيّة والقاضي: “بالتأكيد على القرار المتَّخَذِ في نيسان بمنح الاستقلال الذاتيّ للكنيسة في أوكرانيا، وإعادة إحياء الستافروبيجي في كييف، وإعادة المنشقّين إلى حضن الكنيسة مع رعاياهم، لأنّ حرمانهم ليس لأسباب عقائديّة؛ وإلغاء قرار سنة 1686 برسامة مطران كييف في موسكو، ودعوة جميع الأطراف إلى عدم التعديّ على الممتلكات، وعدم القيام بأعمال عنفيّة”.

وقد أعادت هذه الأزمة، التي لها أبعاد اجتماعيّة وسياسيّة وتاريخيّة معقّدة، طرح مسألة الاستقلال الذاتيّ على بساط البحث في العالم الأرثوذكسيّ، لا سيّما وأنّ البطريركيّة المسكونيّة قد تنصّلت من موقفها التقليديّ من هذه المسألة، والذي كانت قد عمّمته في مطلع التسعينات على الكنائس ويعتبر “أنّ منح الاستقلال الذاتيّ يعود، وفقاً للممارسة وللتقليد الكنسيّ، إلى المجمع المسكونيّ حصراً، وأنّ موافقة جميع بطاركة الشرق ضروريّة عند اتّخاذ قرارات تتعلّق بتنظيم الكنيسة الجامعة، وأنّ منح الاستقلال الذاتيّ في أيّامنا الحاضرة يجب أن يُناط بالمجمع الأرثوذكسيّ الكبير، أو أن يتمّ من خلال تبادل الرسائل التي تعبّر عن موافقة جميع الكنائس المستقلّة، وأنّ حقّ المبادرة في بدء إجراءات منح الاستقلال الذاتيّ وفي إعلانه يعود للبطريركيّة المسكونيّة بعد التوافق من خلال إجراءات مسبقة تقوم بها البطريركيّة المسكونيّة”. وكذلك تنصّلت القسطنطينيّة من كلّ ما تمّ الاتّفاق عليه في هذا المجال على الصعيد الأرثوذكسيّ المشترك ولا سيّما فيما يتعلّق بموافقة الكنيسة الأمّ وجميع الكنائس الأرثوذكسيّة على منح الاستقلال الذاتيّ لكنيسة معيّنة، وصارت تعتبر في أيّامنا أنّ كلّ ما “تمّ الاتّفاق عليه سابقاً هو غير ملزم للبطريركيّة المسكونيّة، لأنّه لا يصلح لمعالجة القضايا المطروحة على ضمير الكنيسة في القرن الحاليّ، ولأنّ الاستقلال الذاتيّ هو حقّ حصريّ للبطريرك المسكونيّ، ولمجمعه المقدّس منذ حوالي 1350 سنة”.

لقد فتح قرار القسطنطينيّة بشأن أوكرانيا نقاشاً قانونيّاً وتاريخيّاً في العالم الأرثوذكسيّ، وأزمة في الأرثوذكسيّة الجامعة، واضطهاداً للكنيسة الشرعيّة في أوكرانيا. كذلك فإنّه نقل الكنيسة الأرثوذكسيّة برمّتها إلى وسط الحرب الباردة الدائرة حاليّاً في العالم. ويراهن أتباع البطريركيّة المسكونيّة أن قدرتهم على فرض موقفهم بشأن المسألة الأوكرانيّة سيمكّنهم في المستقبل من فرض رؤيتهم لما ستكون عليه الكنيسة الأرثوذكسيّة في المستقبل ولكيفيّة إدارة الخلافات في العالم الأرثوذكسيّ. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الأزمة تتعدّى المسألة الأوكرانيّة لتكرّس مقاربة جديدة على مستوى الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة للمسائل التالية:

  • مسألة مفهوم الكنيسة الأمّ والحدود القانونيّة للكنائس: من خلال فرض البطريركيّة المسكونيّة قراءتها الأحاديّة للتاريخ واعتبارها أن أوكرانيا تتبع لها بعد أن كانت قد ضُمت الى موسكو منذ ما يزيد عن ثلاثة قرون، وقيامها بتغيير الحدود القائمة للكنائس من خلال تدخلها بالشؤون الداخلية للكنائس ومنح الاستقلال الذاتي لكنائس لا يتبع مطارنتها لمجمعها المقدس.
  • مسألة دور البطريرك المسكونيّ والبطريركيّة المسكونيّة في حلّ الخلافات القائمة بين الكنائس الأخرى، على أساس أنّه يمكن للبطريركيّة المسكونيّة أن تتدخّل عفواً، ومن دون طلب الكنيسة المعنيّة، أو حتّى في حال رفضها. كما أنّه بإمكانها أن تتدخّل بطلب من السلطات السياسيّة أو المنشقّين والمحرومين.
  • مسألة إجماع الكنائس الأرثوذكسيّة على اتّخاذ القرارات التي تطال العالم الأرثوذكسيّ ككل. رفض البطريركيّة المسكونية لهذا المبدأ واعتبار أنّ الحقيقة تكون دائماً إلى جانبها.
  • تشجيع قيام كنيسة مستقلّة في كلّ دولة مستقلّة.
  • مسألة قيام كنائس موازية تابعة لبطريركيّات مختلفة ضمن حدود دولة واحدة.
  • -مسألة التعاطي مع المنشقّين وكيفيّة قبولهم في الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة: قبول المنشقّين من دون توبتهم، وتكريس فكرة شرعنة الانشقاقات.

إنّ ما تقدّم يشير إلى أن الأزمة الأوكرانيّة هي ليست أزمة بين موسكو والقسطنطينية فقط ولكنّها مسألة ذات تداعيات على الكنيسة الجامعة، ولذلك اتّخذ المجمع الأنطاكيّ المقدّس قراراً تاريخيّاً قبل استفحال هذه الأزمة عبّر فيه، عن موقفه من كلّ المسائل المذكورة أعلاه. وقد جاء في هذا القرار:

  • إنّ الكنيسة الأنطاكيّة تعبّر عن قلقها الكبير من المحاولات الرامية إلى تغيير جغرافيا الكنائس الأرثوذكسيّة من خلال إعادة قراءة التاريخ اليوم. وتعتبر أنّ الاحتكام إلى قراءات أحادية للتاريخ، لا يخدم الوحدة الأرثوذكسيّة بل يساهم في تأجيج التنابذ والشقاق بين أبناء الكنيسة الواحدة.
  • إنّ الكنيسة الأنطاكيّة ترفض تكريس مبدأ قيام كنائس موازية ضمن الحدود القانونيّة للبطريركيّات، والكنائس المستقلّة كوسيلة لحلّ الخلافات أو كأمر واقع في العالم الأرثوذكسيّ.
  • تؤكّد الكنيسة الأنطاكيّة، بلسان الآباء، أنّ أيّة مقاربة لمسألة منح الاستقلال الذاتيّ لكنيسة معيّنة يجب أن تتوافق مع الإكليزيولوجيا الأرثوذكسيّة، والمبادئ التي تمّ الاتّفاق عليها بإجماع الكنائس في السنوات الماضية إن لجهة موافقة الكنيسة الأمّ، أو لجهة اعتراف جميع الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة بهذا القرار.
  • تؤكّد الكنيسة الأنطاكيّة ضرورة الاحتكام لمبدأ الاجماع فيما يختص بالعمل الارثوذكسيّ المشترك، والمسائل الخلافية في العالم الأرثوذكسيّ، وذلك كضمانة فعليّة لوحدة الكنيسة الارثوذكسية.
  • تحذر الكنيسة الأنطاكيّة من مخاطر زجّ العالم الأرثوذكسيّ في الصراعات السياسيّة العالميّة، ومن مساوئ مقاربة الكنيسة الأرثوذكسيّة على أسس سياسية وعرقية وقومية.
  • تدعو الكنيسة الأنطاكيّة قداسة البطريرك المسكونيّ إلى الدعوة لاجتماع عاجل لرؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة للتداول في التطوّرات التي يشهدها العالم الأرثوذكسيّ بشأن مسألة منح الاستقلال الذاتيّ لكنائس جديدة، والعمل على إيجاد حلول مشتركة لها قبل اتخّاذ أيّ قرار نهائيّ بشأنها.
  • تشدّد الكنيسة الأنطاكيّة على أهميّة اليقظة الروحيّة في هذه المرحلة التاريخيّة الدقيقة، وعلى ضرورة الحفاظ على سلام الكنيسة ووحدتها، والتنبّه لعدم الوقوع في مطبّات السياسة التي أثبت التاريخ أنّها أوهنت الكنيسة الأرثوذكسيّة، وأضعفت الشهادة الأرثوذكسيّة الواحدة في العالم.

إتّخذت كنيستا صربيا وبولونيا موقفاً رافضاً لموقف القسطنطينيّة. فيما لاذت الكنائس الناطقة باليونانيّة، أو تلك الواقعة تحت سيطرة الإكليروس اليونانيّ، ومعها جبل آثوس، بالصمت المطبق. أما كنيسة رومانيا فقد صدر عن مجمعها المقدّس موقف ملتبس يقول الشيء وعكسه. دعت كنيسة موسكو ومعها عدد من الكنائس الأخرى إلى عقد اجتماع عامّ لرؤساء الكنائس للبحث في هذه المسألة. ولكنّ البطريركيّة المسكونيّة لم تستجب لهذه الدعوة، ممّا يكرّس الانشقاق الفعليّ على مستوى الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة، وينذر بالأسوأ.

وهنا لا بدّ من التذكير بقراءة مثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس(الرابع) مسألةَ وجود خمس بطاركة يحملون لقب بطريرك إنطاكيا (الموارنة، السريان، الكاثوليك)، في المدى الأنطاكيّ، حيث يقول:”فلنقلها مباشرة: لم تكن أنطاكية لتنقسم إلى خمس بطريركيات لو تمّ انعقاد مجمع أنطاكيّ لمواجهة كلٍّ من الأزمات التي ذكرنا، حرّاً من أيّ ضغط خارجيّ، سياسيّاً كان أم كنسيّاً… لا بدّ أن تكون المجمعيّة نقطة إنطلاق الوحدة الأنطاكيّة الجديدة لأنّ سبب كلّ انفجار كان طمس الحسّ المجمعيّ. ففي أساس كلّ صدع يكمن جرح في شركة المحبة، تبعته أو شرّعته معارضة في صياغة الإيمان. وعوض أن تضمّد محبّةُ الرعاة هذا الجرح المزدوج، اعتبرته غير قابل للشفاء، فانتقل على الصعيد القانونيّ. فالكنائس في الجانبين عزلت نفسها في نوع من تبرير الذات القانونيّ”.

هل سينعقد مجمع أرثوذكسيّ عامّ لرأب ما انقطع، وللتأسيس لعلاقات جديدة بين الكنائس الأرثوذكسيّة، أم ستقود الأنانيّات والمصالح وقصر الرؤية وقلّة المحبّة إلى تكريس الانشقاق في العالم الأرثوذكسي؟ هذا يبقى رهن الأيّام القادمة.

55 Shares
55 Shares
Tweet
Share55