اليوم راس خلاصنا

الأب جورج مسّوح Wednesday April 30, 2008 340

يلحظ كتاب تنظيم الصلوات الكنسيّة، المعروف باسم “التيبيكون”، الحالات التي يقع فيها عيد بشارة سيّدتنا والدة الإله في السبوع العظيم ويوم الفصح المجيد، وفي الثلاثة الأيّام الأولى من أسبوع التجديدات. وهي حالات باتت مستحيلة وغير قابلة للتحقيق في أيّامنا هذه، وذلك بعد اعتماد كنيستنا، في تحديد أعيادها الثابثة، على التقويم الغربيّ وإبقائها على التقويم الشرقيّ، الذي يتأخر عن التقويم الأوّل بثلاثة عشر يومًا، في تحديد عيد الفصح وكلّ ما يتّصل به من بدء الصوم الكبير إلى أحد العنصرة.

ما زلت أذكر أستاذي بمادّة التيبيكون، في معهد القدّيس سرجيوس للاهوت الأرثوذكسيّ في باريس، كيف قال لنا، نحن طلاّبه الآتين من الكنائس الأرثوذكسيّة التي اعتمدت التقويم الغربيّ لتحديد الأعياد الثابثة، وكان بيننا اليونانيّ والأنطاكيّ، إنه ينبغي لنا إمّا اعتماد التقويم الغربيّ في تحديد كلّ الأعياد، بما فيها الفصح، أو البقاء على التقويم الشرقيّ لكلّ الأعياد، كيلا نفقد حلاوةَ تصادفِ عيد الفصح أو سبت النور وعيد البشارة في يوم واحد.

لسنا نكتب هذا الكلام كي نتحدّث عن التيبيكون الذي له خبراؤه الأكثر علمًا منّا. لكن جلّ ما أردنا قوله هو أنّ الفصح يبدأ من البشارة، والبشارة تبدأ من الفصح. وكلّ شيء في المسيحيّة إنّما ينطلق من الفصح، وينتهي في الفصح. وللبشارة مكانة خاصّة بين سائر الأحداث الخلاصيّة، وذلك بأنّها، في عمق اللاهوت، نقطة البدء الفعليّة لتدبير الله الخلاصيّ في التاريخ البشريّ، وهذا ما تؤكّده طروباريّة عيد البشارة المنشدة: “اليومَ رأس خلاصنا، وإعلان السرّ الذي من الدهور، فإّن ابن الله يصير ابن البتول…”.

البشارة والفصح صنوان. والفصح، لغةً، هو  العبور. كان ينبغي أن تعبر مريم من حالة العصيان إلى الطاعة الكلّيّة؛ من حالة الاستكبار التي وقع فيها الجنس البشريّ، ممثّلاً بالجدّين الأوّلين، آدم وحوّاء، إلى حالة الطاعة المريميّة؛ من وضع الإغراء الأفعوانيّ في الجنّة “فتصيران كآلهة عارفَي الخير والشرّ”، إلى تواضع مريم الهاتفة يوم بشارتها “ها أنا أمَة الربّ، فليكن لي بحسب قولك”؛ كان ضروريًّا عبور مريم  من بشريّة ساقطة إلى بشريّة لها عينان رأتا خلاص الربّ الذي أعدّه منذ البدء للمؤمنين به؛ كان عبور مريم، بقبولها احتواء المخلّص في أحشائها، ضروريًّا كي يتمّ فصح الربّ.

لكن، كان لا بدّ من فصح السيّد، عبوره من الموت إلى الحياة، كي تتحقق البشارة الحقيقيّة، ولادة الكنيسة وانطلاقتها إلى أطراف المسكونة حاملةً كلمة الخلاص. بشارة مريم مهّدت تجسّد الربّ وصليبه وقيامته. تبدأ حياته بفصح، وتنتهي بفصح. تبدأ حياته ببشرى سارّة، وتنتهي ببشرى سارّة. “قد قام، ليس هو ههنا”. القبر خاوٍ. بطن الأرض فارغ. أصاب القبرَ عسرُ هضم. عاد لا يستطيع ابتلاع أحد.

باتت البشارة حديثًا طيّبًا عن يسوع، شهادةً يؤدّيها المصدّقون إيّاها في سلوكهم اليوميّ، رجاءً بحياة أبديّة تدوم وتدوم، محبّةً يحياها المؤمنون باسمه تشعّ عطاءً لكلّ مستضعف في الأرض…باتت البشارة تسكن في كلّ فضيلة إنجيليّة تتجسّد في واقع الناس وحياتهم. وهذه البشارة ما كانت لتتحقق لو لم يقم ذاك الذي بشّر به الملاك، ذات يوم، فتاةً من البشر صدّقت أقواله، فصدقته القول. “وإنْ كان المسيح ما قام، فبشارتنا باطلة وإيمانكم باطل”.

ما خابت مريم. ما خاب الرسل. ما خاب أغناطيوس، ولا الذهبيّ الفم، ولا باسيليوس الكبير، ولا أنطونيوس، ولا جاورجيوس … ما خاب كلّ مؤمن، مجهول من البشر ومعروف لدى الله، رأى هذه البشارة بعين بسيطة، فصار كلّه نيّرًا. ما خاب كلّ بشريّ بشّر به هو، وما بشّر بنفسه.

أمّا نحن، أبناء القرن الحادي والعشرين، فبمّن نبشّر؟ أو بالأحرى بما نبشّر؟ أما نبشّر بأنفسنا؟ بشهواتنا؟ بزعماء يدغدغوننا في عصبيّتنا الطائفيّة؟ بحروب لا تبقي ولا تَذَر؟ هل أصبحت بشارة مريم من الماضي الغابر أم أنّ الملاك يتوجّه إلى كلّ منّا، اليوم وهنا؟ هل نترنّم، نحن المسيحيّين، فرحين بقيامة الربّ من بين الأموات من دون أن يعني هذا الفرح أنّنا قد قمنا معه نحن أيضًا؟.

ليس صدفةً أن نعيّد البشارة والقيامة معًا في بدء فصل الربيع، فصل الحياة المتجدّدة والناشئة من العدم. متى ستصبح حياتنا ربيعًا دائمًا تزهر فيه نفوسنا عبيرًا دائمًا يسكبه الربّ علينا طيبًا زكي الرائحة لا يُحتجز؟

مجلة النور، العدد الثالث 2008، 114-115

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share