د. جورج معلولي
أن نكون في الحياة هي العجيبة الدائمة والثابتة، العجيبة المخفاة التي تسند الكون. إنّها كلمة اللَّه في الكون. فإذا انفتحت أعين أذهاننا لنبصر الربّ يسوع قائمًا في وسط الكون ومحوره، وفي الوقت عينه جالسًا عن يمين الآب، نستقبل اللَّه المعطي الحياة(1). لذلك قرّب يسوع نفسه ذبيحة لأجل العالم، لكي يكسر بلهبة الروح التضادّ بين اللَّه والعالم. وعلى هذه الصورة التزامنا: كسر التضادّ. وهذا الكسر حاصل بكسر الخبز وكسر الذات(2).
ذلك بأنّ سرّ الكون هو سرّ الفداء(3). في هذا السرّ، ينادي القائم من الموت كلّ شوق وكلّ حبّ كما أجاب مريم الباكية على القبر الباحثة عن جسده، مناديًا إيّاها باسمها، إجابة لشوقها وطلبها إيّاه شخصيًّا(4). والخراف السامعة صوته تتبعه في حركة خروج من الذات نحو اللَّه والقريب(5). وهو يعطيها حياة أبديّة، أي يدخلها حياة اللَّه-الثالوث. في هذا التنافذ osmose الذي يتمّ بين الراعي وخرافه »مكمَّلين إلى واحد«، يمتدّ عمل اللَّه في العالم(6)، والبيئة هي المحبّة.
في هذه البيئة، ينكشف سرّ الحياة حياة من الآخر، في مجّانيّة هي كالخلق ولادة جديدة(7)، وطابعها التلقائيّة والحرّيّة كما الروح الذي يهبّ حيث يشاء(8).
لا انفكاك في هذه الولادة بين الإيمان والاستنارة والحياة الأبديّة(9). فالإيمان العميق هو تلقائيًّا حياة(10). والحياة الأبديّة مرتبطة عضويًّا بالإيمان. وهو إيمان شخصيّ، إيمان بشخص لا بأفكار. وهذا يتمّ لأنقياء القلوب(11) في تجاوز مستمرّ للذات وانطلاق، كما المرأة السامريّة، إلى الماء الحيّ، في امتداد epectasis لا ينتهي(12).
بدء هذه الطريق أن يقال لنا كلّ حقيقتنا، أن نواجه حقيقة أعماقنا(13) حتّى يصفّي مجرى الماء الحيّ مجرى الأنا العكر(14). حينئذ نفهم ارتباط الإدانة بالظلمة وعدم الإدانة بالنور، وكم هو جوهريّ أن نكون شفوقين رحيمين واسعين، مماثلين المسيح نور الحياة(15) الذي، وإن كان يعلم كلّ شيء، لا يدين(16).
يرافق الاتّضاع هذه المسيرة كشرط أساس. فبدون الاتّضاع ربّما لا ينفع لمس الربّ كتوما ولا الخدمة المتفانية كحاملات الطيب، ولا معموديّة المخلّع ثانية ولا أنهار مياه السامريّة النابعة من الداخل… بل قد تنقلب هذه كلّها ضدّنا إذا فتئنا ندّعي الفهم(17). غير أنّ هذا الاتّضاع يختلف جذريًّا عن التوبة »المتبكبكة، القلقة، السلبيّة«. فهذه دليل خلل ما، دليل عدم إيمان أقصى(18).
ليس هذا الإيمان قبولاً عقليًّا. توما بدأ بالشكّ وطلبُ اليقين شرعيّ. والشكّ، أيضًا، ليس أمرًا عقليًّا مجرّدًا، بل هو طلب شخصيّ: أن أرى الشخص. يأتي الربّ إلينا كما أتى لتوما، والجواب من كلّ الكيان: »ربّي وإلهي«(19).
يبقى أنّ السؤال الأخير، بل الأوّل والأوحد، الذي يقرّر حياتنا هو: »أتحبّني؟«، والحبّ الحقيقيّ الأصيل هو الأقصى(20). ينسكب هذا الحبّ من أجل هذا العالم تضامنًا مع فداء المسيح(21). بعد هذا لا نهاية للآفاق(22).
(1)خواطر في الكتاب المقدّس،
الأرشمندريت إلياس (مرقص)،
تعاونيّة النور، ص:155
(2) المرجع عينه، ص: 158
(3) المرجع عينه، ص:165
(4) المرجع عينه، ص:168
(5) المرجع عينه، ص: 166
(6) المرجع عينه، ص: 175
(7) المرجع عينه، ص: 188
(8) المرجع عينه، ص: 153
(9) المرجع عينه، ص: 151
(10) المرجع عينه، ص: 156
(11) المرجع عينه، ص: 152
(12)المرجع عينه، ص: 113
(13)المرجع عينه، ص: 154
(14)المرجع عينه، ص: 161
(15)المرجع عينه، ص: 162
(16)المرجع عينه، ص: 163
(17)المرجع عينه، ص: 164
(18)المرجع عينه، ص: 20
(19) المرجع عينه، ص: 177
(20) المرجع عينه، ص: 180
(21) المرجع عينه، ص: 176
(22) المرجع عينه، ص: 152