جورج تامر
ما جالسته مرّة، إلاّ وتضمّن الحديثُ أكثرَ من طرفة، أو نادرة، أو ملاحظةٍ تُضْحِك، يرويها بصوته الخافت، بعفويّة وهدوء. وتفترّ الشفتان، اللتان تكاد اللحية الكثّة تخفيهما، عن ابتسامة مكنوزة بالرضى. كان المرح من الصفات المحبّبة التي تحلّت بها شخصية الأب إلياس. وأحسب أنّ مرحه ليس طبعًا وحسب، بل، فوق ذلك، موقف وجوديّ، واعٍ، مقصود، ينمّ عن أمرين: الزهد، والفرح بالخلاص.
قد يبدو مستغرَبًا أن أجعل المرح نتيجة الزهد، وكم من صورة قاتمة تنتشر عن تشدّد النسّاك واكفهرار قسماتهم. لكنّ الأمر ليس كذلك. الزهد الرضيّ يأتي بالمرح، ويقترن به، إذ هو تحرّرٌ من الهموم والعلائق التي تشغل الشخص، وتقلقه إمكانيّة فقدانها. من تحرّرت نفسه من هذا كلّه، تعامل والحياةَ ومعطياتِها بمرحٍ وخفّة، ليست خفّة الاستهتار والاستخفاف، بل خفّة التحرّر من أثقال الهموم. الزهد افتقارٌ في الروح عمّا في الدنيا، قناعةٌ صادقة بما هو جوهريّ، واكتفاء داخليّ عميق بالربّ. فكيف لا يكون أحد انعكاساته المرح؟ من ترسّّخ فيه اليقين أنّ الربّ يرعاه، فلا شيء يعوزه، قابَلَ العالمَ بابتسامةٍ مشرقة تشفّ عن نور المسيح الشارح صدر المؤمن.
أتذكّر، في هذا السياق، ما يرويه القرآن الكريم من أنّ سليمان – وهو في القرآن ملك عظيم، أعطي أن يفهم لغة الطير وسائر الحيوانات، وأن يسود الإنس والجنّ، أتى وجيشه الجرّار على وادي النمل. فلمّا شعرت بهم نملة حذّرت أبناء جنسها من الخطر الداهم أن يدخلوا مساكنهم لئلاّ يحطّمهم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون. فلمّا سمع سليمان كلامها تبسّم ضاحكًا من قولها، ورفع، فورًا، الصلاة شاكرًا اللَّه على نعمته، سائلاً إيّاه أن يهديه إلى عمل الصلاح، ويُدخِلَه برحمته في عباده الصالحين (سورة النمل ٢٧: ١٧- ١٩). جزع النملة، وهي من أصغر المخلوقات، أثار في سليمان مرحًا مقرونًا باللجوء إلى اللَّه، مُغدِق النعم، والتماس رحمته. مرحٌ شكور، على اكتفاءٍ بنعمة اللَّه، وثقة صلدة برحمته. هذا ما كان الأب إلياس عليه، زاهدًا في ما عدا ذلك.
أمّا الفرح بالخلاص، فهو بدء البشارة المسيحيّة ونهايتها. هكذا أتى الملاك، بدءًا، بالبشرى إلى مريم. وتلاه الجوق الملائكيّ المهلِّل بحلول المسرَّة بين البشر بميلاد المسيح. ولم يترك يسوع تلاميذه قبل أن يوصيهم بأن »افرحوا فقد غلبت العالم«، معلنًا عن فرح دائم، لا يمكن لأحد أن ينزعه منهم، ومنّا (يوحنّا 16: 22). وأنجز السيّد القول بالفعل، إذ قام من بين الأموات.
الفرح زبدة الإنجيل. والقيامة قمّة هذا الفرح. إن تغلّلتْ في مفاصلك، وسرتْ في عروقك، واستغرقتْ دماغك، وملأتْ قلبك، أصبحتَ سيّدًا على ما تأتي به الأيّام من شدائد وهموم وأحزان، واستقبلتَ الآتي، مهما كان، بالمرح. فما يهمّ؟ كلّ ما يحدث في الحياة يصغر أمام الموت. وهذا قضى عليه المسيح بقيامته، وكسر شوكتَه، التي تنخس الناسَ، بالفرح الفائض من القبر الفارغ. هزئ المسيح بالموت، سائدًا عليه. كذلك تعامل الأب إلياس وشؤونَ الحياة بمرح. مرحُه كان قائمًا في فرحه بالخلاص الذي أُنْجِز بالقيامة.
يُروى في كتاب الملوك الأوّل 19: ١٢- ١٣، أنّ إيليّا النبيّ مُنح أن يشعر بعبور الربّ في صوتٍ منخفض خفيف. لم يكن الربّ في الريح أو الزلزلة أو النار، بل في النسيم اللطيف. من عرف الأب الياس يدرك أنّ الربّ يكون، أيضًا، في لطف المرح.