الأرشمندريت إلياس مرقص
إنّ عيد ميلاد العذراء هو أوّل عيد سيّديّ في السنة الليتورجيّة (وعيد رقادها آخر عيد سيّديّ أيضًا)، لأنّ العذراء تمثّل علاقة جنسنا الأولى والأخيرة بالربّ في تدبير التجسّد والفداء، وإكرام الكنيسة لها في أعيادها هو تأمّل وابتهاج بسرّ الخلاص، وفي الوقت ذاته بشخص العذراء وما تحويه من نِعَمٍ وفضائل وجمال.
فلا تستغربنّ إكرامنا الجزيل لها، لأنّها هي الذروة والغاية التي بها وصلت البشريّة إليها، حسب قصد الله، في مجال القداسة والجلال والاتحّاد به تعالى، إلى جانب كونها الوسيطة التي بها تمّ الخلاص وبواسطتها عدنا إلى الله.
ولذا فالقدّيسون العديدون لجأوا إليها بحماسة وورع، والألقاب والأناشيد والمدائح التي تمتدحها، والتي تتميّز بالعمق والجمال، تكاد تكون لا عدّ لها.
أمّا طقس الكنيسة، في عيد ميلاد العذراء، فيتناول أوّلًا فكرة الخصب بعد العقم وبدء أثمار النعمة: «اليوم ابتدأت النعمة تثمر وانحلّ عقر طبيعتنا». «إنّ يواكيم وحنّة أُطلقا من عار العقر وآدم وحواء أُعتقا من فساد الموت». «لقد أشرق شمس العدل، المسيحُ إلهنا، فحلّ اللعنة ووهب البركة وأبطل الموت».
– ثمّ إنّ الفرح يعمّ تعييدنا: «إفرحا معًا أيّتها السماء والأرض لأنّ الأشعّة العقليّة قد أشرقت للعالم بالفرح العامّ». «يا أيّها الأنبياء تباشروا مع الرسل والصدّيقين لأنّه فرح عامّ في العالم والملائكة والبشر».
– ونمدح العذراء بالألقاب المتنوّعة: سماء حيّة وخدر للختن… ميناء الخلاص وجسر الحياة… فخرًا شاملًا للذين يسبّحون سرّها بإيمان.
– هذا إلى جانب الوجه العقائديّ «الغرفة الملوكيّة التي بها تمّ سرّ الاتّحاد الغريب لطبيعتي المسيح»، «إناء اللاهوت التي بها تألّهنا».
عدا الوجه النسكيّ الجهاديّ: «… إنّ صلاة يواكيم وحنّة معًا وتنهّدهما بسبب العقر وعدم الولادة قد حلّا محلّ حسُنِ القبول في مسامع الربّ… أمّا الأوّل فكان يقيم الصلاة في الجبل، وأمّا الثانية فكانت تحتمل العار في البستان…». «إنّ حنّة الشريفة قد ظهرت عمودًا حيًّا للعفاف…».
فيا أيّتها العذراء «تقبّلي منّي تسبيحًا من شفاه دنسة وامنحيني غفران الزلّات… فإنّ أشعّة فرح مولدك قد أنارت أذهان الذين يسبّحونك باشتياق»…
– هذا وإنّ ميلاد العذراء (إلى جانب عيد البشارة) يشكّل فتح باب السرّ الذي به يعود للجنس البشريّ فى نقاوته ويسلك طريق الكمال.
– «فالعذراء تحلُّنا من قيود اللّعنة وتفتح لنا طريق السماء».
بها ننال نعمة إعادة خلق القلب وتحظى طبيعتنا بالتجديد.
وبها نقتبل يقظة النفس الساهرة المستعدّة على الدوام لاستقبال سرّ الله.
– ثمّ إذ قد حملت العذراء المسيح، نذكر أنّنا نحن أيضًا نحمله وأنّنا نحيا ونوجد ونتحرّك في الإله الحيّ، لأنّه بفضلها أعطانا الله أن نحويه أيضًا.
فيها وحدها نبض وينبض معًا قلب الإنسان وقلب الله، فتتّحد نبضة الروح القدس بنبضة دمنا.
فلندع الله يدخلنا في أعماقنا بكلّ زخم الحبّ واندفاعه.
– ثمّ إنّها الندى الذي أعلن الله ذاته فيه، وينبوع الماء الذي يجري بلا انقطاع.
– ثقة الطفل وبساطة مقدّسة تحفظ قلبها الهادئ بلا تشويش.
شفافيّة لا يقربها هوى تسمح للملاك بأن يبزغ في الجسد. مرآة تعكس من هو وراء الجسد.
– نجمة الصبح المبشّرة بالسرّ الشارق في النفس.
– العين المفتوحة بسعة على دائرة الأفق الإلهيّ.
– الأبديّة منبثّة في قلب اللحظة.
– إنّها تجسيد للصلاة.
إنّها ملكة الصلاة.
«فيا أيّتها العذراء اقبلينا كنفوس عطشى لأفراح الفجر الذي لا يغيب، وجدّدي فينا قلبًا نقيًّا…».
المرجع : مجلّة النور، العدد السادس، ٢٠٠٠.