«ليكونوا واحدًا كما أنّنا نحن واحد»

الأرشمندريت إلياس مرقص Monday August 17, 2020 302

(يوحنّا ١٧: ٢٢)

الأرشمندريت إلياس مرقص

المسيحيّة لا تخلو من «التوحيد» بل تتبنّاه في عقائدها وطقوسها وتعاليمها الأخلاقيّة وتحياها إلى أبعد الحدود.

فالله أوّلًا هو محبّة كيانيّة، «توحيديّة» (إذا جاز القول) إلى أقصى حدّ. فالله الثالوث إله واحد جوهريًّا، كلّ أقنوم فيه متّحد بالآخر اتّحادًا كلّيًّا كيانيًّا لا ينفصل فيه الواحد عن الآخر، وهم ذوو جوهر واحد «أؤمن بإله واحد» نقول في دستور الإيمان. هذا ونحن مدعوّون لنحقّق فينا عبر المحبّة تلك الوحدانيّة أي حياة الإله الثالوث والوحدة معًا. فالربّ يسوع في صلاته للآب قبل تسليمه طلب للذين يؤمنون به قائلًا: «ليكون الجميع واحدًا كما أنّك أنت أيّها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا… ليكونوا واحدًا كما أنّنا نحن واحد» (يوحنّا ١٧: ٢١-٢٢). إنّها كما نرى وحدانيّة حيّة، وحدانيّة غنيّة.

وهذا جليّ في طقوسنا.

ففي بدء كلّ خدمة تقريبًا نلتمس من الروح القدس أنّ «هلمّ واسكن فينا» (فينا بصيغة الجمع) وتاليًا وحّدنا فيك تحقيقًا لقول يسوع: «أنا فيكم وأنتم فيّ» (يوحنّا ١٤ :٢٠). ويقول بولس الرسول «جميعكم واحد في المسيح يسوع» (غلاطية ٣ :٢٨).

وفي كلّ «القوانين الطقسيّة»، بدءًا بصلاة نصف الليل في الآحاد نقول ونكرّر مرارًا كثيرة: «أيّها الثالوث القدّوس الإله الواحد ارحمنا وخلّصنا»، و«المجد للآب والابن والروح القدس»، وذلك، كما يبدو لي، لكيما نحقّق هذه الوحدانيّة فينا وبيننا على اختلاف أطباعنا وأوضاعنا.

– وفي طلبات الكاهن نصلّي «من أجل اتّحاد الجميع»:

من أجل سلام كلّ العالم، وثبات كنائس الله المقدّسة واتّحاد الجميع،

ومن أجل أبينا ورئيس كهنتنا (فلان)، والكهنة المكرّمين، والشمامسة الخدّام بالمسيح، وجميع الإكليروس والشعب،

ومن أجل هذه المدينة (أو هذا الدير المقدّس)، وجميع الأديرة والمدن والقرى، والمؤمنين الساكنين فيها،

ومن أجل المسافرين برًّا وبحرًا وجوًّا، والمرضى والمتألّمين والأسرى وخلاصهم…

وكأنّنا نريد أن نجمع الجميع «وبعضنا بعضًا» في طلب رحمة الربّ.

– وفي مجال التسبيح أيضًا نجمع الكلّ والجميع لتسبيح الربّ معًا وكأنّنا واحد، نسبّح الربّ بصوت واحد:

«سبّحوا الربّ من السماوات، سبّحوه في الأعالي، سبّحوه يا جميع ملائكته، سبحّوه يا جميع قوّاته. سبحّيه أيّتها الشمس والقمر، سبحّيه يا جميع الكواكب والأنوار. سبحّيه يا سماء السماوات والمياه التي فوق السماوات. لتسبّح هذه لاسم الربّ…» (مز ١٤٨: ١- ٥). «سبّحي الربّ من الأرض أيّتها التنانين ويا جميع اللجج. النار والبرد والثلج والجليد والرياح العاصفة المنفّذة لكلمته. الجبال وجميع التلال، الشجر ذو الثمر وجميع الأرز. الوحوش وجميع البهائم. الدبّابات والطيور ذوات الجناح. ملوك الأرض وجميع الشعوب. الرؤساء وجميع قضاة الأرض. الشبّان والعذارى. الشيوخ مع الفتيان. ليسبّحوا لاسم الربّ» (مز ١٤٨: ٧- ١٣). «كلّ نسمة فلتسبّح الربّ» (مز ١٥٠: ٥).

– والصلوت كلّها مرتّبة (في الدور اليوميّ والأسبوعيّ والسنويّ) وكأنّها تهدف إلى الاتّحاد الكامل مع الله وترتقي إليه وتبلغ غايتها في سرّ الشكر حيث نتّحد بجسد الربّ ودمه الكريمين فنصير واحدًا وإيّاه، جسدًا واحدًا في المسيح (لا وحدة معنويّة أو أخلاقيّة بل كيانيّة).

– وفي صلاة اسم يسوع: «ربّي يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني أنا الخاطئ» – إذا ما قيلت بكيان القلب وبصورة دائمة كما يوصي الآباء الهدوئيّون، والتي هي مناولة كما قيل – نتّحد بالربّ يسوع ونتّحد أيضًا بعضنا ببعض إذا ما صلّيناها قلبيًّا وكأنّنا مع الجماعة (قال لي أحد رهبان جبل آثوس إنّه يصلّيها هكذا: «ربّي يسوع المسيح ارحمنا نحن الخطأة»).

– وفي نهاية الفترة الطقسيّة لتدبير الخلاص، في الأحد الذي يلي العنصرة وكتتويج لهذه الفترة، تعيّد الكنيسة لجميع القدّيسين، فنبلغ إلى ما يسمّى «شركة القدّيسين» وهو «سرّ شركة القدّيسين» (كما دعاهم أحدهم)، فيه تتحقّق سرّيًّا وحدانيّة الإنسانيّة باتّحاد المؤمنين اتّحادًا كاملًا مقدّسًا في ما بينهم، ومع الله، بالروح القدس الذي انحدر إلى الكنيسة يوم العنصرة.

– وفي سرّ الزواج يصير الرجل والمرأة جسدًا واحدًا وهذا كيانيًّا. وقد وردت العبارة في الكتاب المقدّس أصلًا: «رجل امرأة» (لا رجل وامرأة). ويقول الرسول بولس: «إنّ هذا السرّ لعظيم» ناسبًا إيّاه إلى اتّحاد الكنيسة بالمسيح، مصعِدًا إيّاه إلى حيث يتحقّق الاتّحاد والوحدانيّة الكاملة.

– وعلى صعيد السلوك فالمسيحيّة تدعو إلى الخروج من الذات لمحبّة الآخرين كأنفسنا كما تدعو إلى محبّة الناس بمن فيهم الأعداء، فلا يبقى أحد غريبًا خارج نطاق تلك المحبّة الكلّيّة (حتّى إنّ القدّيس سلوان يقول إنّ محبّة الأعداء هي علامة مسيحيّتنا، أي أنّ من لا يحبّ أعداءه ليس مسيحيًّا).

– وفي سرّ التجسّد يحلّ الله في العذراء ليصير إنسانًا فيتّحد بالبشر ويصير واحدًا وإيّاهم… إلى هذا الحدّ… كأنّ الوحدة سرّ الكون وسرّ الحياة الحقّ الإلهيّة.

– وهكذا يتّضح أنّ عقائدنا وصلواتنا وتصرّفاتنا كلّها قائمة تحت علامة الوحدة بغية تحقيق وحدة البشر في العالم ومع الله.

– فكم يجدر تاليًا، بل كم ينبغي ويجب أن نفقه الله ونحسّ به ونعيش تلك العقائد وتلك الصلوات وتلك المحبّة، طالبين تحقيق تلك الوحدة القدّوسة وممتدّين نحوها بكلّ كياننا بنعمة الربّ!!

 

 

المرجع : مجلّة النور، العدد الأوّل، ٢٠٠٣.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share