دراسة لأيقونة الدينونة في كنيسة القديس جاورجيوس في اللاذقية
الأب يوحنّا بدّور
أيقونة الدينونة
الفهرس
المقدمة
المجيء الثاني والدينونة في الإنجيل
وصف الأيقونة التشريحي
المقدمة:
يتناول هذا الموضوع الحديث عن أيقونة الدينونة الموجودة في كنيسة القديس جاورجيوس في اللاذقية.
المجيء الثاني والدينونة الأخيرة في الإنجيل المقدس:
ترتكز هذه الأيقونة في ملامحها بشكل عام على النصوص الإنجيلية التالية التي تتحدث عن الدينونة الأخيرة:” وأما في تلك الأيام بعد ذلك الضيق فالشمس تظلم والقمر لا يعطي ضوءه. ونجوم السماء تتساقط والقوات التي في السماوات تتزعزع، وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتياً في سحاب بقوة كثيرة ومجد، فيرسل حينئذ ملائكته ويجمع مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء الأرض إلى أقصاء السماء”(مر24:13-27).
“ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريباً فآويتموني، عرياناً فكسوتموني، مريضاً فزرتموني، محبوساً فأتيتم إليَّ، فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا رب متى رأيناك جائعاً فأطعمناك أو عطشاناً فسقيناك، ومتى رأيناك غريباً فآويناك أو عرياناً فكسوناك، ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك. فيجيب الملك ويقول لهم: الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه.
ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.لأني جعت فلم تطعموني عطشت فلم تسقوني كنت غريباً فلم تأووني عرياناً فلم تكسوني مريضاً ومحبوساً فلم تزوروني. حينئذ يجيبونه هم ابيضا قائلين يا رب متى رأيناك جائعاً أو عطشاناً أو غريباً أو عرياناً أو مريضاً أو محبوساً ولم نخدمك. فيجيبهم قائلاً الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوا. فيمضي هؤلاء إلى عذاب ابدي والأبرار إلى حياة أبدية”( مت31:25-45).
وصف الأيقونة:
إنها أيقونة مستطيلة الشكل وهي تجمع مشاهد متعددة تدور كلها حول قضية الدينونة الأخيرة وكيف يجلس الديان على كرسي المجد محاطاً بملائكته وقديسيه ويُجري الدينونة الرهيبة. ولكن للأسف فقد جار الزمان على هذه الأيقونة وتآكل بعض أجزائها، والبعض الآخر قد تمزق، وهناك شبه اهتراء كامل للإطار السفلي للأيقونة، مما جعل قراءة تاريخها ومعرفة راسمها أمراً مستحيلاً تماماً. إذا تمعّنا في الأيقونة من الأعلى إلى الأسفل بحسب تسلسل المشاهد نرى ما يلي:
في أعلى الأيقونة ومنتصفها يبدو المسيح له المجد، ابن الإنسان الآتي على السحاب في مجده ليجري الدينونة الأخيرة. وهناك ربوات من الملائكة تحيط به من كل جانب. وحوله توجد كتابة تقول:” يسوع المسيح ملك المجد … يبصرون ابن الإنسان آتياً في سحاب بقوة كثيرة ومجد، فيرسل حينئذ ملائكته ويجمع مختاريه من الأربع الرياح من أقصاء الأرض إلى أقصاء السماء”(مر26:13-27). يظهر المسيح فاتحاً ذراعيه ويتطلع نحو أمه البتول القديسة الواقفة أمامه وقفة الشفاعة والتوسل لأجل العالم، وفي ذات الوقت يلامس نهرُ النار الخارج من فم الجحيم السحابَ الذي يجلس عليه الرب يسوع.
إلى الأسفل قليلاً من الموضع الذي نرى السيد جالساً فيه نرى القديسة مريم والدة الإله تقف عن يمين ملك المجد، وفي مقابلها نرى القديس يوحنا المعمدان واقفاً عن يسار الرب وهما يتشفعان إلى الديان كي يرحم خليقته، ونرى بعض الملائكة ينتشرون بينهما. ثم نرى مصف الرسل الاثني عشر تحوط بهم الملائكة وهم جالسون عن يمين رب المجد ويساره ليدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر كما سبق الرب فقال لهم حين كان معهم بالجسد على الأرض” أنتم الذين ثبتم معي في تجاربي وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر”(لو28:22-30)ونشاهد تحت أقدام الرسل الاثني عشر كتابتان. الأولى من جهة اليمين نقرأ فيها القول السيِّدي:” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك لكم قبل….”، ومن جهة اليسار تقول الكتابة:” اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة…..”. وفي أسفل السحابة التي تحت قدمي السيد، ودون الرسل القديسين هناك الجدان الأوَّلان آدم وحواء وهما يحيطان بسفر مفتوح قد كُتِبَ عليه:” لو لم آتي وأكلمهم لم تكن لهم خطيئة، وأما الآن فليس لهم حجة في خطيئتهم”. وبهذا تنقسم الأيقونة إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول هو مصف المباركون من الله ومصيرهم الفردوس والحياة الأبدية التي لا نهاية لها ، والقسم الثاني هو مصف الملعونون من جرّاء خطاياهم الكثيرة ومصيرهم هو الجحيم الأبدي مع الشيطان وملائكته حيث الظلمة الأبدية والنار التي لا تنطفىء والدود الذي لا يموت.
ثم نرى في مركز الأيقونة الميزان الذي توزن فيه أعمال كل إنسان، خيراً كانت أم شراً. تمسك يد تظهر من وراء الغمام بالميزان الذي تُوضع فيه أعمال كل إنسان تتم محاكمته. من جهة توضَع الأعمال الصالحة ومن الجهة الأخرى توضَع الأعمال السيئة التي اقترفها هذا الإنسان. ونشاهد تحت الميزان إنساناً عارياً يتم فحص أعماله، وهناك إلى جانبه الأيمن نشاهد رئيسي الملائكة ميخائيل وجبرائيل وهما يمسكان بأيديهما بحربتين يوجهانها إلى الشياطين الواقفة من على يسار الإنسان الذي تتم محاسبته. فوق رأس هذا الإنسان من جهة اليمين نرى ملائكة تحاول الدفاع عنه وتمسك في يديها شهادة على أعماله الحسنة وفضائله تقول فيها إنه إنسان رحيم ووديع وحكيم، بينما على يسار الإنسان ومقابل الملائكة نجد شياطين تحمل اتهامات لهذا الإنسان تبرز فيها خطاياه وأهواءه الرئيسية فتقول إنه إنسان مرائي وحاسد ويشتهي الغنى ومتعظِّم. ويبدو الميزان فوق رأس هذا المُحَاكَم مائلاً نحو جهة الملائكة، أي أن أعماله الحسنة تفوق شروره، وهذا يعني أن مصيره هو الملكوت السماوي، وان لا خوف عليه من بعد من الذهاب إلى العذاب الأبدي.
وفي الجهة السفلى من موضع محاكمة هذا الإنسان هناك قبور تُفتَح ويخرج منها الأموات، وهناك شياطين تمسك بهؤلاء الخارجين من القبور، وقد ثبت عليهم تهمة الوقوع في خطايا معينة. ولذلك نرى تسميات معينة فوق القبور تقول : الكاذب الزواني، محبي الفضة، الخطأة. وتقوم الشياطين بتعذيب وجرِّ أناس آخرين مكتوب فوقهم: المتكبر، القاتل، محب المجد، الظالم، السارق، الناكرين للمسيح، المجدِّف. وفي ذات الوقت نرى بالقرب من هؤلاء ملاكاً يحمي عدة أشخاص مكتوب فوقهم كلمة التائبين.
إلى جانب رئيسي الملائكة ميخائيل وجبرائيل يتجمهر محفل القديسين والقديسات خلف بعضهم البعض، ويتقدمهم الرسل الإثني عشر وعلى رأسهم القديس بطرس الرسول حاملاً مفاتيح ملكوت السماوات ويمد يده باتجاه باب الفردوس المغلق كناية عن شروعه في فتح باب الملكوت كي يدخل وراءه جميع القديسين.
وجوه القديسين في المقدمة واضحة ثم تغيب وجوه من يأتي وراءهم لتظهر للناظر الهالات المقدسة المكتظة وراء بعضها البعض والمنتظرة الدخول إلى الملكوت المنتظر. يحيط بالفردوس سور كبير جداً تتوزع فيه القبب والأبنية المتعددة التي تشير إلى قول الرب يسوع:” في بيت أبي منازل كثيرة”( يو2:14)، وتبدو لنا قامات القديسين ضخمة جداً تضاهي ارتفاع الأسوار كناية عن قامتهم الروحية العالية جداً.
داخل الفردوس نستطيع رؤية والدة الإله وهي تتربع على عرش محاطة بالملائكة القديسين، ويبدو لنا أنها تنظر نحو الأسوار. وفي أحد أرجاء الفردوس المزدان بالأشجار، نرى البطاركة الثلاثة إبراهيم واسحق ويعقوب جالسين، يتوسطهم إبراهيم أبو الآباء ، اسحق عن يساره ويعقوب من عن يمينه، ونشاهد في حضن إبراهيم صورة نفس ترمز إلى نفوس الصديقين التي هي بين يدي الله فلا يمسها العذاب متمتعة بالطمأنينة والسلام السماويين.
ونستطيع أن نتبيَّن في الفردوس أيضاً صورة إنسان شبع عار يحمل صليباً وقد كُتِبَ فوقه كلمة” اللص” أي اللص الذي دافع عن الرب يسوع عندما كان معلقاً على الصليب وقال له الرب يسوع :“الحق أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس”(لو43:23). وأما الجحيم فنشاهده في الطرف الآخر من الأيقونة مصوراً على شكل نهر نار متأجج يظهر لهيبه متصاعداً بشكل مخيف من فم رأس حيوان هائل الحجم، يشبه شكل التنين، وتظهر في هذا الفم الوحشي الهائل أنياب حادة وأسنان ضخمة، وفي وسط هذا الفم المفتوح وبين ألسنة النار المتصاعدة نرى كلمة تشير إلى ماهية هذا الوحش هي“الجحيم”، ونشا إبليس جالساً وهو يضع بين أحضانه يهوذا الإسخريوطي. شكل إبليس بشع جداً، يفتح فمه المليء بالأنياب ويخرج منه لهيب نار، ويبدو قرناه مع عينيه اللتين تقدحان شرراً.
في طرف فم التنين يظهر سيمون الساحر الذي هلك لأنه فكر أن يقتني موهبة الله بالمال، وضمن لهيب النار الخارج من فم الجحيم الرهيب نرى الكثير من الشياطين المسلحين بالرماح بالإضافة إلى مجموعة من البشر مكتوب فوق رؤوسهم آريوس وباقي الأراتقة. كما نرى أيضاُ مجموعة من الناس المقيدين بالسلاسل يسوقهم شيطان ويلقي بهم في الجحيم، وقد كُتِبَ فوقهم كلمة” الخطأة”. تقوم الشياطين بتعذيب الخطأة وضربهم، وتظهر بين اللهيب أعضاء بشر يتعذبون في الجحيم، فهنا ثمة رأس وهناك توجد يد أو عضو ما آخر، لأن الجحيم تغلي بالخطأة وهم لا يعرفون فيها مستقراً بل يكونون في عذاب دائم.
في المنطقة الواقعة خلف الجحيم نرى مشاهد متعددة. إذا تطلعنا من الأسفل إلى الأعلى نرى أسماكاً تقذف من أفواهها بشراً كانت قد ابتلعتهم، وحيواناً على اليابسة أيضاً يبصق من فيه يداً بشرية، ويقف إلى جانبه ملاك ولكن للأسف لا نستطيع تبيُّن المشهد بسبب تمزق الأيقونة في هذا الموضع. في المنطقة التي تعلو هذا المشهد نرى إيليا النبي مع أخنوخ وهما يحاجّان المسيح الدجال، ثم إلى الأعلى منهما نرى شيطاناً وهو يسوق جماعة اليهود التي تتطلع نحو موسى النبي. إنهم لم يصدقوا موسى ولو صدقوه لآمنوا بالمسيح له المجد. ثم في الأعلى نرى على طرف الإطار جمهوراً من الشياطين تتجمع حول مجموعة من البشر العراة وهناك أيضاً عدة أشخاص يسقطون على الأرض في محاولة ظاهرة لاستمطار الرحمة الإلهية ويقف أمامهم شيطان مرعب وضخم. ثم إلى الأمام منهم قليلاً يوجد ملاك يحمل في يده سفراً مفتوحاً يحاجج فيه العادمي الرحمة لقساوة قلوبهم، ويبدو خلف الملاك سحابة تحمل ملاكاً آخر مفتوح الجناحين.
في أسفل الأيقونة يوجد تصوير واضح لأمكنة العذاب في الجحيم وتأخذ شكل حجرات أربع تفصل بينها أعمدة، ونقرأ عنواناً مكتوباً فوقها يقول:” عذابات الجحيم حيث يكون البكاء وصريف الأسنان”. في هذه الحجرات يوجد تقريباً منظر واحد. إذ نرى في موضع العذاب أناساً عراة يحيط بهم لهيب هائل، وتقوم الشياطين بوخزهم بالرماح العادية والمثلثة الرؤوس.يبدو العذاب قاسياً جداً فجميع المتواجدين في الجحيم يصرفون بأسنانهم بشكل واضح دلالة على الندامة المرة، ويلاحظ المرء على جباه غالبيتهم نوعاً من ختم، كناية عن حملهم ختم المسيح الدجال.
قنداق أحد الدينونة
إذا أتيت يا الله على الأرض بمجد ويرتعد منك الكل ونهر النار قدام الكرسي يجذب، والمصاحف ُتفَتح والخفايا تُشهَر. في ذلك الحين نجني من النار التي لا تُطفَأ، واجعلني مستحقاً للوقوف عن يمينك أيها الديّان العادل.