أيُّها الأحبَّاء، في بدايةِ الصوم، نحن موضوعونَ أمامَ هذا الجهادِ الذي يأتي إلينا مجدَّدًا، بسرورٍ وحبورٍ نستقبلُهُ وبنشاطِ القلب، ونستعدُّ له منذُ أكثَرَ مِن شهر. وينبغِي أن نكونَ مُستعدِّينَ للجهادِ طَوالَ حياتنا. فالصومُ بحدِّ ذاتِهِ لا يعنِي شيئًا، إن لَم يَكُن قناةً تُوصِلُنا إلى الالتصاقِ بالمسيح. فإذا لم تأكل، تَضعَفُ صحَّتُكَ وتموت. وعندما تقتبلُ هذا الصوم، إذًا أنتَ تقتبلُ أنَّكَ تموت. ولكن أنتَ تموتُ من أجلِ محبَّةِ المسيح، عندَ ذاك تُؤكِّد لنفسِكَ أنَّ الحياةَ مصدرُها المسيح، وليسَ الأكل والمُقتنيات والمَلذَّات التي في هذه الأرض.
* * *
ولذلكَ تأتي الكنيسةُ اليومَ لكي تُعلِّمَنا ما قالَه السيِّد: أنتَ إذا صُمتَ، فاغسِل وجهَكَ وادهَن رأسَك، ولا تظهَر للناسِ أنَّك صائمٌ معبِّسٌ، كأنَّك تُربِحُ الناسَ جميلَكَ هذا، ذلك أنَّ عبادَتَك ينبغي أن تكونَ في القلب. وعبادةُ القلب لا تنفِي العبادةَ الخارجيَّة. كالذين يقولون: لا تَصُم، بل فليَصُم لسانُك، هذه عباراتٌ لا معنَى لها. إنْ كنتَ تصوم، فكلُّ كيانِكَ يصوم، ليسَ فقط لسانُكَ ولا مَعِدَتُك. كلُّ كيانِكَ يبتعدُ عن الخطيئة.
فلنجتهد من أجل تنقيةِ قلوبنا، حتّى يؤهِّلَنا الربُّ لملكوتِهِ، بعد هذه الحياة التي نقضيها هنا بجهادٍ ونشاطٍ، لكن عن محبَّة، وليس عن قَرَفٍ أو تَعبٍ أو استثقال. بفرحٍ وبنشاطٍ نُقبِلُ إلى الصيامِ والجهاد. وأوَّلُ أمرٍ نسلكه أو نُتمِّمُه من أجل أن تتنقَّى قلوبُنا، هو أن نغفرَ للناس، أن نعذُرَهم لأنَّهم قد تصرَّفوا بطريقةٍ خاطئةٍ معنا. وبالمقابل،
نطلبُ نحن منهم أن يغفروا لنا، حتَّى نتحرَّر من هذه المطالب التي نتطلَّبُها الواحدُ منَّا للآخر. ولكنَّنا لن نتمتَّعَ بغفرانِ اللهِ تمتُّعًا جيِّدًا، ما لم تَكُن قلوبُنا نقيَّةً كمثلِ قلبِه، وغافرةً كمثلِ غفرانِه. فإنَّه لا يعودُ يذكرُ تلكَ الإساءات التي صنعناها إليه، وعدم التكريم الذي عوَّضناه له عندما أهنَّاه بخطايانا.
* * *
ليس الهدفُ إذًا أن نأكلَ مآكلَ صياميَّة، بقدر ما نعبِّرُ، بتحمُّلنا لهذه المآكل ومشقَّتِها، عن شوقِنا وجوعِنا إلى المسيح. بالمقابل نجلسُ إلى طاولتنا، نأخذ الكتاب المقدَّس ونقرأه بتمعُّنٍ، بشغفٍ، بشوقٍ حتَّى نأكلَه ونشبعَ منه. وبالتالي، متى اكتشفنا كلَّ هذا الغنى والوفرة والمحبَّة العظيمةالتي يُقدِّمها لنا المسيح، لا نستطيع في ما بعد أن نحتفظَ بحقدٍ أو بكراهيَّةٍ أو بصعوبةٍ في قلبنا أن نتقبَّلَ الآخَر. فنغفر ونصرخ إليه: “واترك لنا ما علينا، كما نترك نحن لمن لنا عليه”. اغفِر لنا خطايانا، كمَا نغفِرُ نحنُ للذينَ أخطأوا إلينا، فتنسجِمُ هذه العلاقةُ الداخليَّة بينَنا وبينَ المسيح.
فليؤهِّلنا الربُّ القدُّوس أن نقتبلَ غفرانَ خطايانا وتنقيةَ قلوبِنا من كلِّ حقدٍ وكراهيَّةٍ وشهوةٍ ضارَّة، حتَّى نشتهيهِ هوَ بالذَّات، فنمتلِكَه في قلوبِنا كنزًا لا يفنَى إلى الأبد. آمين
أفرام مطران طرابلس والكورة وتوابعهما
نشرة الكرمة تصدرها أبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس