عنوان ملتبِس لواقع كنسيّ ملتبِس! أمر بديهيّ!
التّعميم، بلا شكّ، في غير محلّه. التّعميم في ماذا؟ في الواقع الكنسيّ. لكن ثمّة مِسحةً طاغية على هذا الواقع، اليوم، لا يسعنا إلاّ أن نقرّ بطغيانها، إذا ما كنّا لنَصدق. ما أعنيه بتلك المِسحةِ الدّهريّةَ. هذه تتطبَّع، إلى حدّ بعيد، بيننا، بحيث نجدنا بإزاء تيّارَين متنافرَين في الكنيسة: أَحدهما يعتبرها حداثة، ويرى إلى ضرورة مواكبتها حتّى لا ترتع الكنيسة في حال من الرّجعيّة والتّخلّف والأصوليّة، فتخفق في مخاطبتها الإنسان المعاصر، وتخون روح الكرازة والرّسوليّة المودَعة فيها بالوصيّة. والآخر يعتبر مِسحةَ الدّهريّة إطاحة لوجدان الكنيسة التّراثيّ وضربًا للكنيسة في الصّميم وتشويهًا لصورة مسيح الرّبّ وشرودًا عن روحه.
ثمّة التباس قائم في الأعماق، والسّؤال: ما أسبابُه؟
السّبب، الّذي هو وراء كلّ الأسباب، أنّنا، بإزاء الكنيسة، بتنا أمام صورتَين وجدانيَّتين متباينتَين بشأنها. الكنيسة لم تعد تعني الأمر عينه للجميع. هناك كنيسة وكنيسة أخرى تمامًا في الأذهان. هناك كنيسة بمعنى جسد المسيح، أي كنيسة ذات طابع سرّيّ، يفوق مدارك البشر، لا تَقبل الحصر؛ كنيسة ذات طبيعة إلهيّة بشريّة، في آن، يتجلّى ما هو إلهيّ فيها في ما هو بشريّ، ما يعني أنّ ما هو من المؤسّسة فيها يعكس ما هو إلهيّ سرّيّ، ويؤدّي إليه. هذه هي الكنيسة الحقّ الّتي أسّسها الرّبّ يسوع، وهو رأسها وهي جسده؛ وقد بثّها روحَه القدّوس من لدن الآب، فأضحت إيّاه، وجودًا إلهيًّا بشريًّا حاملاً فعل تجسّد محبّته بتواتر؛ فيها يتّحد الرّبّ يسوع بالّذين يحبّونه، كما يتّحد الّذين يحبّونه به. على هذا ليست الكنيسة الحقّ لا مؤسّسة ولا شركة بين النّاس، أنّى تكن طبيعة هذه الشّركة، ولو كان لها وجه مؤسّساتيّ، لطبيعتها ذات البعد البشريّ، ولو كانت لتتجلّى في شركة بين قوم لهم إيمان الكنيسة القويم الواحد، المنحدر إلينا بالتّراث الحيّ لروح الرّبّ وخبرة القدّيسين، ولهم الوجدان الواحد للكنيسة، والعبادة الواحدة، في الرّوح والحقّ، للكنيسة الجامعة المقدّسة الرّسوليّة. وهناك، إلى ذلك، كنيسة أخرى لها، في أفهام النّاس، معنى آخر، تمامًا. آخر في حقيقتها العميقة، وروحها. جماعةُ معتبَرين مؤمنين. إعلان عَقَديّ نصّيّ واحد. طقوس مشتركة. نمط حياة بشريّ. شعارات. إيديولوجيّات. هيكليّة رتبيّة واحدة. تَحْكُم باسم الله وسلطانه. مؤسّسة واحدة إلهيّةُ العنوان بشريّةُ المضمون. هوّيّة طائفيّة واحدة. وقفيّات خاصّة. وما شاكل ذلك.
ليست هاتان الصّورتان، عن الكنيسة، واحدة، ولو التبس الكلام في الواحدة والأخرى. فأمّا الأولى فتطالعنا بنمط حياة إلهيّة بشريّة. وأمّا الثّانية فتقتصر على نمط حياة بشريّة بحتة، ولكنْ ذي شعارات مسيحيّة. تتمثّل الأولى في حضرة إلهيّة روحيّة تراثيّة تُشعّ من خلال المعتبَرين قدّيسين، واحدّا أو ملايين لا فرق. وتتمثّل الثّانية في جماعة طائفيّة تحدّث وتفسِّر ما جاء في الكتب وفق تصوّرها لنفسها وإلهها. تركِّز الأولى على ما هو للرّوح والحقّ، على قاعدة الصّوم والصّلاة. وتكتفي الثّانية، بالأحرى، بما هو للكلام والشّكل والظّواهريّة (phenomenology)، على أساس الدّرس والطّقوس. تنضح الأولى بروح الله. وتستحيل الثّانية آراء ومبادئ. الأولى لاهوت معيش في الرّوح القدس. والثّانية تنظير لاهوتيّ مقرون بالإنسانويّات والأخلاقيّات والاجتماعيّات. همّ الأولى القداسة والحياة الأبديّة. وهمّ الثّانية الدّراسات والمؤسّسات والنّشاطات. تؤكّد الأولى الإيمان الحيّ الفاعل بالمحبّة. وتضع الثّانية الإيمان على مستوى القناعات الشّخصيّة. في الأولى يحكم الدّهر الآتي تفاصيلَ هذا الدّهر. وفي الثّانية تُسخَّر الإلهيّات، بالأحرى، لخدمة الإنسان في هذا الدّهر. الأولى قِبلتها ملكوت السّموات. والثّانية قِبلتها هذا الدّهر على أيديولوجيّة مسيحيّة. الأولى مسيحيّة تحيا في المسيح. والثّانية “مسيحيّة” بلا مسيح! الأولى كنيسة الله الّتي اقتناها بدمه والثّانية كنيسة دهريّة نفسانيّة!
لقد غزت الدّهريّة جماعةَ المؤمنين إلى حدّ ليس بقليل. وإذا ما أضحت صورة الكنيسة في وجدان الكثيرين هي الثّانية الّتي تبسّطنا فيها أعلاه، فما ذلك سوى دليل على أنّ الدّهريّة لم تعد، بإزاء الكنيسة، خطرًا يداهمها من الخارج، بل واقع داخليّ منحرف ترسّخ في الكيان والوجدان وغيَّر النّظرة كلّها إلى الأمور وكذا طريقة التّعامل معها. لم تعد الكنيسة، فعليًّا، لدى فريق يُعتدّ به من النّاس، الجسدَ السّرّيّ لمسيح الرّبّ إلاّ بالاسم، بل، عمليًّا، مؤسّسة ذات شعارات مسيحيّة. المسيحيّة، في التّعاطي، أضحت دخولاً في معتقد مختلف، ولما تَعُدْ دخولاً في حياة جديدة! هذا نَقَضَ جوهر المسيحيّة لأنّ المسيحيّة روح وحياة أوّلاً، وبعد ذلك هي هذا التّفصيل أو ذاك فيها. المضمون تغيَّر ولو بقيت الهيئة الخارجيّة للجسد المسيحيّ هي إيّاها. الكتاب المقدّس، مثلاً، بقي؛ لكنْ كما تحكّم روحُ الغريب بمعلّمي إسرائيل في تعاطيهم إيّاه حتّى قتلوا ربّ المجد المتكلّم بالكتاب المقدّس، هكذا تَحكُم الرّوح الدّهريّة أكثر المعلِّمين، اليوم، فيتعاطوه كأدب ويُعرِضوا عنه من حيث هو الله متكلِّمًا، ويطيحوه كروح وحياة! لم يعد جلّ البحث، في الكتاب المقدّس، عن حضور الله الحيّ الفاعل أمسًا واليوم، بل عن المعاني الأدبيّة والعلميّة والتّاريخيّة للنّصوص!
ليس أنّنا إذا ما اهتممنا بهوادي الكتاب المقدّس ابتغاء الحياة في المسيح، لا نعود نهتمّ بالنّصوص والمعانيّ؛ بالعكس، نهتمّ بها، ولكنْ، بروح أخرى، بمخافة الله، بنيّة الحفاظ على التّراث الحيّ ودعمه، أي عمل الرّوح القدس في الكنيسة، بقصد سَوق كلّ عِلم إلى خدمة كلمة الله، في سعي حثيث إلى بنيان المؤمنين. إذا لم نكن لنتعاطى الكتاب المقدّس بروح الله، بنقاوة القلب، بالصّلاة، بالتّواضع، فسنتعاطاه، لا محالة، أهوائيًّا! دراساتنا واجتهاداتنا وآراؤنا ستكون، إذ ذاك، مغمّسة بأنانيّاتنا وكبريائنا وانحرافات فكرنا وسعينا إلى إثبات ذواتنا وطلبنا المجد الباطل… ادّعاءُ الموضوعيّة في البحث وَهمْ! مَن لا يطلب أن يزداد، كلّ يوم، محبّةً لله وحرصًا على حفظ وصيّته، لا يوجد في الحقّ ولا يضيئ الرّوح قلبه. ومَن لا يوجد في الحقّ لا يمكنه أن يتعاطى الكتاب المقدّس في الرّوح والحقّ! بروح الرّبّ، أوّلاً، يُعرف الكتاب المقدّس! العقل الّذي لا يستنير بروح الله لا ينفع شيئًا! يقيم، إذ ذاك، في الباطل! وإن تعاطيتَ الكتاب المقدّس في الباطل، لا يمكنك أن تخرج إلى النّاس إلاّ بآراء ونظريّات عقيمة لا تبني بقدر ما تشوِّش وتحشو الأذهان بما لا ينفع وتصرف عمّا يُقيت الإنسان للخلاص!
من هذا المنطلق يمسي همّ الحداثة ستارًا للدّهريّة، وتسري القناعة، بين العديدين، أنّك، لتخرج من حال الانحطاط والتّعثُّر في الكنيسة، تحتاج إلى رجال متعلّمين يسوسون الخدمة، وإلى إدارة متطوِّرة وإلى إعلام وإلى تغيير جذريّ في الطّقوس يخاطب الإنسان المعاصر بلغة يفهمها، ويوافق أنماط الحياة الرّاهنة ويناسب النّظام الغذائيّ لإنسان اليوم، وكذا انشغالاته واهتماماته ومواقيته كما لو كانت الكنسيّات مجرّد إضافات إلى الحياة العصريّة! ثمّة حاجة، وفق هذا المنظور، لإعادة النّظر في مجمل مفاهيم الصّوم والصّلاة والخِدَم اللّيتورجيّة. النّصوص العقديّة بحاجة إلى نفض، وكذا القوانين الكنسيّة، وقس على ذلك…
إنّ ربط النّهضة الكنسيّة بالاستغناء عن الفئات الفكريّة المعتبرة “بائدة”، والعادات، الّتي يُظنّ أنّه عفّ عنها الزّمن، والمفاهيم الرّعائيّة والعباديّة المصنّفة أنّها رجعيّة، والرّوحيّات والأخلاقيّات الّتي لم تعد تنسجم،في الحسبان، والتّغيُّر الطّارئ على وجدان الإنسان المعاصر والمجتمع الرّاهن، أقول إنّ ربط النّهضة بالتّخلّي عن قوالب الحياة والفكر هذه وأمثالها، والاستعاضة عنها بقوالب حديثة، هو أشبه بالتّصوّر أنّك إن ألبستَ قرويًّا تقليديًّا بنطالاً من الجينز بدل شرواله، ونزعتَ طربوشه، وجعلته على صورة أكثر النّاس، هيئةً، اليوم، جعلته عصريًّا وسهّلت تعاطيه مع النّاس وقبول النّاس له. هذا كاريكاتور! الموضوع موضوع قلب ووجدان أوّلاً!
بديهيّ أن تعبِّر الكنيسة عن نفسها، في كلّ جيل، بلغة ذلك الجيل. هذه، ولو كانت مهمّة، إلاّ أنّ الهاجس الأساس في كلّ زمن، يبقى إيّاه: القداسة، الحياة الأبديّة، حفظ الوصيّة، التّوبة، الصّوم والصّلاة، التّواضع، الوداعة الصّبر، محبّة الله من كلّ القلب والقريب كالنّفس… هذه، وسواها، إن استحالت مفاهيم ولمّا تعد تحكم حياة الإنسان المؤمن بالرّبّ يسوع فما المنفعة؟ التّراث هو، بالضّبط، أن نحيا في ذلك كلّه، في خطى الرّسل والآباء الّذين سبقونا، وأن نمرِّره إلى أولادنا. فإن كان هذا محورَ اهتمامنا وسعينا، فبديهيّ أن نسعى إلى تفسير ما انحدر إلينا بلغة عصريّة وأن تنمو ليتورجيّتنا في اتّجاه ما هو من حضارة اليوم وأن نصوغ قوانين توافق حاجاتنا الرّاهنة وأن نستفيد من العلوم والوسائل الحديثة لدفع الكرازة بالإنجيل. ولكن هذا كلّه يُفترض به أن يأتي من انكبابٍ على الحياة في المسيح. وحده النّضج الدّاخليّ وهمّ نقاوة القلب والعملُ على التّملّؤ من روح الرّبّ والثبات في محبّة الرّبّ يسوع يؤهّلنا للحكمة والاتّزان اللّذَين بهما نتعاطى، للمنفعة والتّقديس، ما هو من البارحة، وما هو من اليوم، وما يمكن أن يأتي علينا في المستقبل، كما يليق. وإلاّ نجدنا نخبط خبط عشواء ونضرب أخماسًا بأسداس وأعجز من أن نميِّز ما هو للمنفعة ممّا هو للمضرّة!
ما يؤلم، اليوم، في جماعة المؤمنين، أنّ روح الدّهريّة باتت تقيم، لدينا، حيث لا ينبغي، فيما نعاني حالة تكاد تكون عامّة من اللاّحسّ واللاّمبالاة! هناك واحات ضوئيّة، ولا شكّ، لكنّ الأغلب أنّ التّمسّك بالأرثوذكسيّة، كتراث، بات أكثرُه تمسّكًا بالشّكل لا بالمضمون. الغربة عن كنيسة الرّوح القدس تزداد، والمتمسِّك بالتّراث الحيّ يزداد شعورُه بالغربة في بيته، يومًا بعد يوم! نحن في شبه بابل كنسيّة! لم نعد نتكلّم، أكثر الأحيان، لغة واحدة! لم تعد العنصرةُ جامعتَنا! كلٌّ لنفسه! ضياعٌ ليس بقليل! وجهُ السّيّد مفتقَد كثيرًا! كلّ المناخ يشدّنا إلى حيث لا نريد أن نذهب! بنتيجة ذلك زمن الشّهادة يدنو! نحن، من حيث لا ندري، في مرحلة ما قبل العاصفة! رغم كلّ شيء الله معنا! وهو العارف، في كلّ حال، أن يُخرِجَ من الغثّ ثمينًا! في نهاية المطاف، لا خلطة للنّور مع الظّلمة، والكلمة تَقْطَع، والكنيسةُ أبوابُ الجحيم لن تقوى عليها! مهما سعى السّعاة فإنّهم لا يستطيعون شيئًا ضدّ الحقّ بل لأجل الحقّ! لكنْ هوذا الشّيطان يطلب أن يغربلكم!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما