في آفاق الحوار الإسلامي – المسيحي

الأب جورج مسّوح Tuesday January 31, 1995 214

“القلوب لها أن تتوادّ بعيسوية طيبة”

المطران جورج خضر

 

“في آفاق الحوار الإسلامي – المسيحي” كتاب جديد للعلاّمة السيد محمد حسين فضل الله صدر عن دار الملاك في 464 صفحة من القطع الكبير، يعرض فيه المؤلف رأيه في الحوار الإسلامي – المسيحي في مختلف الميادين اللاهوتية والحياتية والسياسية مشدداً على القواسم المشتركة والقيم التي تلتقي عليها الديانتان. ما يلفت نظر القارئ ويزيد تقديره للكاتب منذ قراءته الصفحات الأولى من الكتاب الجرأة التي يواجه بها الكاتب المشاكل التي تعترض هذا الحوار.

يتألف الكتاب من فصول عدة. بعد تقديم من المؤلف في 14 صفحة من دون ترقيم، يعرض فضل الله في الفصول الخمسة الأولى نظرته للحوار شارحاً معنى “الحوار في الإسلام” بخاصة في بعده العقيدي وكيفية تطبيقه في لبنان من خلال التعايش، كما أنه يعرض واقع العلاقات الإسلامية – المسيحية راهناً ومستقبلاً، متوقفاً بشكل خاص عند موضوع “المسيحيون في ظل النظام الإسلامي” في الماضي مستشرفاً المستقبل. في الفصول الثلاثة اللاحقة (أي 6-8) يعيد الكتاب نشر حوارات أجريت مع مطارنة وكهنة وقساوسة ورهبان، بالإضافة إلى محاضرات ومقابلات صحافية. أمّا الفصل التاسع “الثمار الفعلية للحوار الإسلامي – المسيحي” فهو كناية عن خاتمة ودعوة إلى اللقاء ومتابعة الطريق لقطف ثمار هذا الحوار.

يبدأ فضل الله بعرض لكيفية الحوار مشدداً على أنه “لا مقدسات ولا محرّمات في الحوار حتى في وجود الله وشخصية النبي” (ص 12)، وبأنه ليس هناك أشخاص ممنوعين من الحوار (ص 13). أمّا الأسلوب الذي يجب اتّباعه في الحوار فهو أسلوب اللاعنف “الذي يعتمد اللين والمحبة”(ص 17) مستشهداً بالآية القرآنية القائلة: ﴿ ومن أحسن قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال: إنني من المسلمين. لا تستوي الحسنة ولا السيئة، إدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يُلَقَّاها إلاَّ الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ﴾ (فُصِّلت، 33-35). أمّا الحسنة فهي بالنسبة إلى فضل الله الأسلوب السلمي وأمّا السيئة فالأسلوب العنيف (ص 17).

منهج الحوار الذي يدعو فضل الله إلى اعتماده هو منهج القرآن الذي يتلخص في الآية: ﴿ وإنّا أو إيَّاكم لَعلى هدًى أو في ضلال مبين ﴾ (سبأ، 24). ويرى فضل الله أن موقف القرآن هذا متقدّم بأشواط بالمقارنة مع الموقف الذي يقول: “رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” (ص 19). هذا المنهج يستدعي الحياد التام وكأنه لا علاقة بينك وبين ما تؤمن به، يقول العلّامة في مكان آخر مستشهداً بالآية عينها: “أن تلتزم الحياد بين فكرتك مهما كانت مقدّسة وبين الفكرة المضادة، لأن هذا هو الذي يجعلك تكتشف نقاط الضعف في فكرتك، إذا كان فيها من نقاط ضعف، وتكتشف نقاط القوة في فكر الآخر، إذا كان يملك من نقاط قوة وبهذا تكون إنساناً موضوعيًّا يريد أن يختار فكراً بالحوار” (ص 23). لا بد من القول بأن موقف فضل الله المتقدّم على غيره من مواقف شيوخ المسلمين في لبنان يستأهل الترحيب، فهذا خطابٌ جديد لم نعهده من قبل.

ينتقل فضل الله بعدها إلى التذكير بأن القرآن قد فتح الحوار مع أهل الكتاب (أي اليهود والنصارى) حول نقطتين تتعلقان بالعقيدة (ص 27):

  • النقطة الأولى: هي وحدانية الله، كما ورد في الآية: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ﴾ (آل عمران، 64).
  • النقطة الثانية: وهي تكملة للآية السابقة: ﴿ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ﴾ (آل عمران ، 64). هذا يعني بالنسبة الى الكاتب أن الجميع سواسية أمام الله والقانون الإلهي، إلى أي لون أو جنس أو عرق أو أرض أو مال أو نسب انتموا.

يتطرق فضل الله أيضاً إلى العقبات التي تحول دون الحوار وذلك بسبب بعض الأحكام المسبقة عند الطرفين، فيقول: “فهناك انطباع لدى بعض المسلمين أن النصارى كافرون أو مشركون، وهناك انطباع لدى بعض النصارى أن الإسلام نوع من الهرطقة ولا يمت إلى السماء بصلة … كما أن هناك قضايا يمكن أن تعيش في دائرة الجدل اللاهوتي كشخصية السيد المسيح (ع) 1، والوحدة التي تلتقي بالتثليث في الأقانيم، ونظرية الفداء ومسألة العقوبات والحريات والرق في الإسلام … ولبنانياً قد نصطدم بفكرة الدولة في الإسلام التي لا يوافق المسيحيون عليها، باعتبار أن فيها انتقاصاً لحريتهم ووجودهم” (ص 34). ويدعو إلى مواجهة هذه العقبات بدل الهروب منها وذلك بالحوار المبني على التفاهم.

بعد أن يعرض فضل الله رأي الإسلام في شخصية السيد المسيح، يصل إلى نتيجة مؤداها: “إذا كان السيد المسيح (ع) في رأي الكثيرين من الناس مّمن ينتسبون إليه، يمثّل حالة إلهية تجسّدت في البشر؛ فإننا – كمسلمين – نُعظّم السيد المسيح (ع) كبشر أرسله الله تعالى. وكعبدٍ لله أطاع الله وعَبَده واختاره ليجعله رسولاً للناس” (ص 58). ولكنه في الوقت عينه لا ينكر أن المسيحيين موحِّدون “إذ يوحِّدون الله، ولكنهم يعتبرون أن عيسى (ع) تجسيد لله، بمعنى أن عيسى ليس شيئاً منفصلاً عن الله، بل الله أراد أن يتجسد في عيسى ليتحمّل آلام البشرية” (ص 60).

يعترف فضل الله بالإنجيل وذلك في سياق سياسي فيقول: “لذلك نحن نعتقد أن المسيحيين يستطيعون أن يعيشوا تحت الحكم الإسلامي من دون أن يشعروا بأية مشكلة لأن الإسلام يعترف بالسيد المسيح وبالسيدة مريم (ع) ويعترف بالإنجيل كما يعترف بالتوراة ويعترف بالقرآن وهو لا يقف ضد المسيحيين في شريعتهم حيث لا شريعة لهم” (ص 61). ويقول فضل الله هذا الكلام مفترضاً أن الإنجيل لا يقدِّم للمسيحيين تشريعاً سياسياً (أنظر أيضاً ص 75) وذلك بالإستناد إلى الآيتين الإنجيليتين اللتين تقولان: “اعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر”2 (متى، 22: 21)، و “مملكتي ليست في3 هذا العالم” (يوحنا، 18: 36). هنا يستعمل الشيخ العلاَّمة آيات قالها السيد المسيح باتراً إياها من سياقها ليفيد منها في دعم فكره. الجدير ذكره في هذا السياق أن المسيح لم يطلب من أتباعه الإستقالة من العالم، فهو القائل: “كما أرسلتني إلى العالم فكذلك أنا أرسلتهم إلى العالم” (يوحنا، 17: 18)، والمهمة المطلوب من التلاميذ إتمامها ليست سوى الشهادة للحق: “وأنا ما وُلدت وأتيت العالم إلَّا لأشهد للحق” (يوحنا، 18: 37). فالعالم بحسب الرسول يوحنا، هو هذا العالم ذاته الذي أحبه الله “حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا، 3: 16).

يدعو بعدها فضل الله المسيحيين في لبنان إلى التخلي عن عقدة الخوف عندهم من المسلمين معتبراً أن “ليس هناك أي مسوّغ لخوف المسيحيين من المسلمين، لأن المسلمين لا يفكّرون تفكيراً عدوانياً ضد المسيحيين، بل يفكّرون بالعيش في مساواة مع المسيحيين في دولة تكون فيها الحقوق والواجبات متساوية” (ص 66). ولكنه من ناحية أخرى يدعو إلى قيام جمهورية إسلامية في لبنان يُحفظ فيها حق المواطنية للمسيحيين “مع بعض التحفظات التشريعية التي لن تنال من كرامة أحد” (ص 67). ويعترف بأن تحقيق هذا المشروع ليس في المستقبل المنظور بل هو مطروح على الصعيد الفكري السياسي كما أن للماركسيين مشروعهم وللإشتراكيين أو للقوميين مشروعهم. ويدعو أخيراً في هذا الإطار المسيحيين إلى الإنفتاح على المسلمين على أساس المساواة “بين المواطنين بقطع النظر عن طائفيتهم” (ص 71). ويعتبر فضل الله “أن الإسلام أقرب إلى المسيحيين من الفكر العلماني، ولذلك فإن المسلمين لا يشكّلون مشكلة للمسيحيين” (ص 75)، هذا الموقف السياسي المتعلّق بالنظرة إلى الجمهورية الإسلامية والذي يعتبر أن الإسلام أقرب إلى المسيحية من الفكر العلماني لا يوافق عليه أغلب المفكرين المسيحيين في لبنان، وبخاصة عند طرح موضوع زواج المسيحي من مسلمة، فإلى الآن لم نجد مفكراً إسلامياً يقبل بهذا الزواج مع محافظة الرجل على إيمانه، فالمطلوب منه في هذه الحالة أن يبدل دينه (أي أن يصبح مسلماً) ليستطيع الزواج من مسلمة، أما في النظام العلماني فهذه المشكلة محلولة، فلكل شخص حرية البقاء على إيمانه أو تبديله …

أهم الجديد في طرح الشيخ فضل الله هو بلا شك قضية مناقشة الفكر المسيحي في مصادره الأساسية، فالعلماء المسلمون السابقون اعتمدوا على ما ورد في القرآن والحديث النبوي حصراً كمراجع عند دراستهم العقائد المسيحية، يقول الكاتب: “فإن المسيحيين إذا كانوا لا يلتزمون العقائد التي وردت في القرآن مما قد يكون بعض النصارى قد التزم بها، فإن ذلك لا يغيّر من طبيعة الحوار شيئاً لأن الحديث سوف ينتقل إلى العقائد والمفاهيم الشائعة في هذا العصر في العنوان الذي تأخذه في المضمون الداخلي للإيمان والكفر” (ص 102). هذا الموقف المتطور في فكر العلامة يستدعي الترحيب، إذ إنه الموقف العلمي الذي يلتزم استقاء المعلومات من ينابيعها، وهذه هي المنهجية المطلوب اتّباعها لكي نصل إلى فهم الآخر كما هو يفكِّر، لا إلى معرفته معرفة خاطئة بالإستناد إلى معلومات لا تخصه لا من بعيد ولا من قريب وذلك من خلال تقويله أشياء لم يقلها.

يرى فضل الله أن المسيحيين يستطيعون العيش في إطار الدولة الإسلامية كمواطنين كاملي المواطنية، إذ يعتبر أن “الدولة الإسلامية لا تفرق بين مواطنيها في مواطنيتهم إلَّا بالمدى الذي يلتزمون فيه بالخط العام للدولة في الفكر الذي يرتكز عليه أساسها … ولهذا فإن الذين لا يلتزمون بالفكر العام لا دور لهم في القرارات المصيرية القائمة على هذا الفكر، على مستوى العلاقات والتشريعات التي لا بد أن تنطلق من القناعات بالأساس الذي ترتكز عليه الدولة، ولكنهم يعيشون مواطنيتهم مع الآخرين في الحقوق والواجبات بحيث يشاركون في القرارات السياسية والإجتماعية والإقتصادية فيما عدا الجوانب العسكرية” (ص 106). نشتَمّ في هذا الكلام هروباً من مواجهة المشكلة الأساسية التي تعترض قبول المسيحيين بطرح الجمهورية الإسلامية، فالمشكلة تكمن في مدى المشاركة الفعلية للمسيحيين في صوغ دستور الدولة الإسلامية التي قد يعيشون فيها، إذ إن التشريع الذي ستقوم عليه هذه الدولة سوف تغيب عن صياغته الجماعة المسيحية لأن هذا، بالنسبة إلى الإسلاميين، شأن إلهي. هذا يعني أن على المسيحيين القبول بالعيش بدولة لم يشاركوا في صنعها، وأن يقبلوا تالياً بأن يكونوا سلبيين أي قابلين دون أن يكونوا فاعلين. هذا من الناحية السياسية، أمّا في ما يخص الإقتصاد، فالنظرة إليه تختلف، بخاصة النظرة إلى نظام المصارف، إذ تُعتبر الفائدة المصرفية رِباً محرّماً.

يقول الشيخ فضل الله في مكان آخر الشيء ذاته مضيفاً أن المسيحيين يحق لهم التصويت في الدولة الإسلامية “ليشاركوا في تقرير المصير في السياسة العامة للدولة وقد يتغلب رأيهم في الكثير من التفاصيل على رأي المسلمين”، ولكنه يستثني من هذه السياسة بعض الأمور معللاً ذلك بقول: “لأن ميزان الأقلية والأكثرية لا يفرض نفسه على الدولة في الحالات التي يتبين فيها الحق من الباطل، والرشد من الغي” (ص 108). هنا تكمن المشكلة، فبعض ما هو مُعتبر غيًّا في الإسلام مقبول عند المسيحيين أو له في المسيحية مفهوم مختلف. لهذا نعتبر أن طرح الشيخ العلّامة للدولة الإسلامية غير مقبول عند شريحة كبيرة من المسيحيين بسبب الغبن الذي سيلحقهم في حال قيام هذه الدولة.

إنتقينا في هذه العجالة ما اعتبرناه نقاطاً أساسية عرضها السيد فضل الله لمناقشة المسيحيين في سبل الحوار معهم. لا بد أن القارئ قد لاحظ أننا لم نستشهد إلَّا بالصفحات المئة ونيف الأولى من الكتاب، هذا لأننا لم نرد أن نكرر أشياء قد تكررت فيه من خلال إعادة نشر لمقابلات صحافية وندوات ومحاضرات، إذ نجد في هذه الصفحات المتبقّيات تكراراً أو توسيعاً أو دخولاً في تفاصيل النقاط المعروضة في الفصول الخمسة الأولى.

لا بد في النهاية من القول بأن تجربة الشيخ فضل الله في الحوار الإسلامي – المسيحي المعروضة في هذا الكتاب جديرة بأن تلاقي أصداء إيجابية على بعض النواحي فيها وردوداً علمية على بعضها الآخر.

 

—————

  • ع تعني: عليه السلام
  • في النص الإنجيلي، ترد الآية معكوسة أي: “اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”
  • فضل الله يذكر في استشهاده بالآية حرف الجر “في” بينما النص الإنجيلي “من” وشتّان ما بين الإثنين.

 

 

 

مجلة النور، العدد الأول 1995، ص 27-31

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share