البابا نحو الصراط المستقيم؟

الأب جورج مسّوح Friday June 15, 2001 211

عندما دخل قداسة الباب يوحنّا بولس الثاني كاتدرائيّة رقاد السيّدة (المريميّة) في دمشق، لاحظ الحاضرون في الكنيسة ومشاهدو النقل المباشر على شاشات التلفزة أنّ الكرسي التي قعد عليها البابا كانت أفخم من باقي الكراسي التي قعد عليها السادة البطاركة والأساقفة الآخرون، بمن فيهم المضيف صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس الرابع. هذه لفتة عظيمة لا تخلو من التواضع من رجل أنطاكيّ كبير يعرف أوّليّة أسقف رومية ويعمل من أجل عودة هذه الأوليّة كما تعرفها الأرثوذكسيّة، لا كما مورست خلال الألف الثاني من عمر المسيحيّة. بادرة غبطة البطريرك الرمزيّة هذه تمكن قراءتها على أنها تعني أنّ البابا محفوظ مكانه في الكنيسة الأرثوذكسيّة كأوّل الأساقفة بين متساوين، إذا أسقط رئاسته كما هي ممارسة اليوم وإذا تمّ حلّ كلّ المشاكل اللاهوتيّة الناتجة من الانشقاق.

لم يخلُ تقدّم كرسي بطريرك السريان الأرثوذكس زكّا الأول عيواص من الجهة الثانية من دلالات ورموز، فهو بطريرك الشقّ الثاني من الكنيسة الأرثوذكسيّة الشرقيّة العربيّة بتقليدّيها: الروميّ والسريانيّ. وحضوره في كرسيه تلك هو، بمعنى من المعاني، حضور لكلّ الكنائس التي بسبب من التباس التعابير وسوء فهمها لم تقبل بالمجمع المسكونيّ الرابع ( خلقيدونية 451)، أعني الكنائس القبطيّة والأرمنيّة والسريانيّة. ما قُصد قوله من هذا  هو أنّ الوحدة مع الكنائس الشرقيّة الأخرى لها أولويّة عند الأنطاكيّين تتواكب مع العمل من أجل وحدة الكنيسة في العالم أجمع.

طبعًا، حملت زيارة البابا إلى سوريا، مدى أنطاكية مدينة الله  العظمى، الكثير من المعاني والدلالات السياسيّة والتاريخيّة والدينيّة. فزيارته المسجد الأمويّ وقبر القدّيس يوحنّا المعمدان (النبيّ يحي في التراث الإسلاميّ)، ولقاؤه بمفتي الجمهوريّة العربيّة السوريّة ودعوته إلى الحوار ما بين الأديان، وزيارته إلى القنيطرة المحرّرة، كلّ هذه الأمور تفيد أنّ سوريا (كما لبنان وبلاد المشرق العربيّ) هي مكان لقاء للإسلام والمسيحيّة تعايش فيه المسلمون والمسيحيّون وتقاسموا مصيرًا مشتركًا واحدًا في صدّ الاعتداءات الخارجيّة من الصليببيّين إلى الإسرائيليّين اليوم. لقد سبق الشرقيّون الغربيّين في عيش الحوار الإسلاميّ-المسيحيّ، وعندنا الكثير ممّا نعلّمه للغرب في هذا المضمار.

إلاّ أنّ ما يعنينا ، نحن المؤمنين والمهتمّين بتحقيق الوحدة المسيحيّة، هو تلك الروح التي سادت الاجتماعات والكلمات التي ألقيت فيها، لقد وضعتنا تلك الكلمات الشفّافة بوضوحها وصراحتها وعدم محاباتها الوجوه أمام ثقل مسؤوليّتنا عن دوام الفرقة والتنابذ. وقد أشار  البابا إلى رسالة أنطاكية في العمل من أجل الوحدة، وبارك الخطوات التي تمّت على طريق التقارب بين كنيستّي أنطاكية الروميّتين. إلاّ أنّه لا يكفي “يأسف” قداسته “لفقدان كنيسة أنطاكية وحدتها على مرّ العصور”، وأن يأمل “في أن تجد الطريركيّات الموجودة حاليًا السبل الأكثر ملاءمة التي تقودها إلى الشركة الكاملة”. نحن، الأرثوذكس، لا نريد اعتذارات أو تأسفات عن أفعال الماضي، كما يريد الآخرون، بل نريد أفعالاً ومبادرات جدّية تدفع إلى الأمام.

لقد ذهب البطريرك الأنطاكيّ أغناطيوس – وريث بطرس والرسل جميعًا – أبعد من البابا الرومانيّ – وريث بطرس أيضًا – عندما شدّد على البعد المعاش من الوحدة المسيحيّة، أي التزام الفقراء والمساكين والمحرومين والمضطّهدين والمعذّبين والمستضعفين في الأرض. والبطريرك معروف بتشديده على أهمّيّة ترجمة تجسّد المسيح في الحياة اليوميّة، لأنّ الكلام على التجسّد في المقالات والدراسات اللاهوتيّة فقط يجرّد إنسانيّة المسيح من أيّ مفعول في حياة البشر، فيصبح التجسّد خاليًا من أيّ معنى خلاصيّ، فمع تأكيده ضرورة حلّ المشاكل اللاهوتيّة التي تعترض الوحدة، لم يغفل البطريرك عن تعداد ميادين أخرى هي بحاجة إلى تعاضد المؤمنين كافّة لإبراز اتّحاد المسيح مع الإنسانيّة كلّها. وحدة المؤمنين تمرّ بتحقيق العدل والسلام و”توزيع الممتلكات”.

المشهد – الرمز الذي أبصرناه بفرح في كنيسة مريم، أمّنا جميعًا، في دمشق الشام، شام الشاميّين الكنعانيّين والبيزنطيّين والسريان والعرب، هو اليوم مشهد قائم “بالقوة، وسيصبح مشهدًا قائمًا “بالفعل” والواقع عندما يقبل البابا  الاستمرار  في السير في “الطريق المستقيم” إلى أن يبلغ نهايته، حيث احترام استقلاليّة كلّ الكنائس المحليّة الأمينة أيضًا على الإيمان الرسوليّ. هذا يتحقق عندما يعمل البابا بموجب قول غبطة البطريرك أغناطيوس الأنطاكيّ حين استقبله: “ليس الدفاع  عن استقامة الرأي حكرًا على كرسيّ رسوليّ معيّن، الكنيسة وحدها هي القادرة على أن تكون ضامنة صحّة الكلمة وتأصلّها في الروح”.

 

مجلة النور، العدد الرابع 2001، 166-167

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share