يُلبسون الشجر والناس عراة

الأب جورج مسّوح Monday December 31, 2001 192

“أنا أحسّ، إذًا انا موجود”

ميلان كونديرا

 

في كلّ عام، قبل عيد الميلاد، تتكرّر المشاهد ذاتها. زينة وأضواء يحاصرانك أنىّ توجّهت. حتى في عقر دارك تقتحمك تلك المشاهد رغم أنفك (وعينك وأذنيك إلى أسفل جسمك!) فلا يبقى مكان تؤوي إليه نفسك.

تخرج إلى الشارع ، إلى السوق، إلى المحالّ التجاريّة الكبرى، إلى الصيدليّة، إلى المكتبة، إلى المدرسة، إلى الجامعة، إلى مكان عملك، إلى بائع الأحذية، إلى المطعم، إلى النوادي الليليّة، إلى أيّ مكان يخطر في رأسك، ترى المشاهد ذاتها. أهذا، إذًا، عيد أم غسل دماغ أم استغلال مناسبة دينيّة أم خداع أم قهر متزايد للفقراء؟ لا يحتاج المرء إلى الكثير من الذكاء لكي يكتشف أنّ قليلًا من كلّ هذا يكّون جزءًا من الجواب عن السؤال.

طبعًا يحقّ لكلّ إنسان أن يحتفل بأيّ عيد كما يحلو له، ليس من وصفة جاهزة تنطبق على كلّ الناس. ونحن، والعياذ بالله، لا نريد أن ننصّب أنفسنا هادين، والهدى هو  هدى الله. ولكن من هذا الحقّ الذي لغيرنا، لنا الحقّ بأن نرى العيد كما أُريد للعيد أن يكون. والعيد هو ذكرى لصاحب العيد، فهل صاحب العيد مرئيّ، ولو بالمجهر المكبّر الآف المرّات، أم لا؟

بطاقة هوية صاحب العيد التي ضُبطت معه، حين أوقفته دوريّة من الشرطة مشرّدًا تائهًا بثياب ممزّقة ونائمًا على قارعة الرصيف (الذي هو ملك البلديّة المحروسة من الله!)، تشير إلى أنّ اسمه يسوع بن مريم ويوسُف (يا لعدم نباهة دوائر التسجيل، فيوسُف، كما شاع في ما بعد، ليس أباه بل متعهّد تربيته) الذي من الناصرة. وقد جاء في الهويّة أنّ مكان الولادة وتاريخها في بلدة اسمها بيت لحم. أمّا الشاهدان اللذان وقّعا وثيقة ولادته فهما ثور وحمار! وصُعق رجال الشرطة عندما قرأوا على تلك البطاقة مقابل مكان الإقامة: غير محدّد، إذ ليس لصاحب البطاقة مكان يُسند إليه رأسه. ملاحظة: اكتُشف، بعد التحقيق معه ومراجعة سجلاّت الأمبراطوريّة الرومانيّة البائدة، أنّ مكان إقامته الدائمة على خشبة اسمها الصليب.

هذا هو صاحب العيد متلبّسًا ببطاقة هويّته وبالإنجيل! والمعلوم أيضًا أنّ صاحب العيد، هو ابن أبيه الذي في السموات وقائد الجنود السماويّة والملائكة وخالق السماء والأرض، قد اختار، بملء إرادته وحرّيّته، أن ينزل إلى الأرض ويتساوى مع هؤلاء الفقراء. أما كان باستطاعته أن يولد في أحد بلاطات الملوك؟ في قصر تحيط به مئات الحدائق الغنّاء؟ أن تخدمه مئات الجواري والعبيد؟ لماذا اختار أن يولد منبوذًا في مذود حقير بعيدًا عن بيته؟ أليس لكي يخزي الملوك ويتّحد مع الفقراء؟ لماذا، إذًا، في عيد ميلاده نسلبه حقّه الطبيعيّ في أن يولد مع الفقراء؟ لماذا الإصرار على نكران اختياره وتشويهه؟

الفقراء هم، كسيّدهم، الغائبون الوحيدون عن العيد. تزيّن الكنائس والبلديّات والمحالّ والطرقات والساحات والواجهات بالأضواء والألوان، وتُلبسس الأماكن والأشجار حلّة العيد، ويسرّ الناس بهذه المظاهر. بينما  منازل الفقراء، أحبّاء يسوع، بلا أضواء وهم عراة يلسعهم البدر. والويل لأحد الفقراء إذا كان يوجد في منزله شاشة ملوّنة اسمها “التلفزيون”، وشاهد أطفاله أحد برامج الأطفال (المليئة بالتفاهة) التي تدعوهم إلى ملاقاتهم في أحد المحالّ الكبرى لكي يشتروا الهدايا، بعد أن تغسل أدمغتهم بلونين فقط طيلة شهر يسبق العيد، وهما الأخضر والأحمر (لا حاجة إلى إعمال العقل لكي ندرك إلى ما يرمز هذان اللونان). الويل له لأنّ راتبه لا يكفيه حتّى لإطعامهم ما يقوتهم حتّى آخر الشهر. الاعتداء على الفقراء يصل حتّى إثارة أطفالهم عليهم، لأنّهم بنظر أطفالهم لا يشترون لهم الهدايا ولا يأخذونهم حيث الفرح والغناء والرقص والعيد!

أضحى العيد شجرةً ومهرّجًا اسمه “بابا نويل” وعشاءً ومناسبة ًاجتماعيّة وفرصة طويلة من العمل. أمّا صاحب العيد فصار مجهولاً، فهو يُرمز إليه بحرف الإكس “X” (والإكس رمز المجهول) في العبارة الشهيرة “X-MAS“، أصبح صاحب العيد “ديونيسيوس (أو باخوس)” إله الخمر، إذ درجت بعض أصناف الويسكي العالميّة على تعهّد زينة بعض الساحات العامّة في العاصمة والضواحي، فنرى اسم هذا النوع أو ذاك يحلّ محلّ اسم صاحب العيد على الشجر والطابات. هنيئًا لك يا ديونيسيوس بعيدك! ويا كلّ آلهة اليونانيّين والرومانيّين المنبعثة من قبورها.

لقد انتصرت الوثنيّة بعد أن قضت عليها المسيحيّة الحقّ. عندما قرّرت الكنيسة أن تجعل ذكرى الميلاد في الخامس والعشرين من كانون الأول، كان السبب  إبعاد المسيحيّين عن احتفالات الوثنيّة بذكرى ميلاد الإله – الشمس، وقد نفع قرار الكنيسة آنذاك. أيّ إله يتذكّر المسيحيّون، اليوم، في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول؟.

 

مجلة النور، العدد التاسع 2001، 466-467

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share