الأرثوذكسيّة والتعدّدية الدينيّة (2)

ألبير لحام Tuesday January 7, 2003 300

*  الجزء الثاني من المحاضرة التي أُلقيَت في معهد اللاهوتيّ البروتستانتيّ في جامعة جنيف

كيف يقارب اللاهوتيّون الأرثوذكس المعاصرون مسألة التعدّديّة الدينيّة؟

هل أنّ “بذار الكلمة”، أو “التدابير” الإلهيّة المتنوّعة التي يتحدّث عنها آباء الكنيسة ليست إلاّ “تحضيرًا إنجيليًّا” لتجسّد المسيح، أم أنّـها لا تزال تخمّر العجين البشريّ حتّى يبلغ هذا العجين ملء قامة المسيح (أف 4: 13) في اكتمال الملكوت؟

  • يجب قبل كلّ شيء الاعتراف بأنّ آباء الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى – الذين ذكرتـهم آنفًا – قد شدّدوا على ضرورة انتماء الإنسان إلى الكنيسة لأنّه “حيث تكون الكنيسة يكون روح الربّ” يقول القدّيس إيريناوس. ويقول أوريجانس في عظاته حول يشوع: “خارج هذا المنزل، أي خارج الكنيسة، لا أحد يخلص. وإذا خرج منه أحد فيكون مسؤولاً عن موته”.

نجد في رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ إلى أهل فيليبّي كلامًا مشابـهًا. لكنّنا نلاحظ أنّ هذا الكلام يتوجّه إلى الانفصاليّين ويطاول الهرطقات التي كانت تشكّك بالإيمان الأرثوذكسيّ. ذلك أنّه يجب الإبقاء على “الإيمان الذي سُلّم إلى القدّيسين تامًّا” كما يرد في رسالة القدّيس يهوذا (1: 3). ويقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية “إن بشّركم أحد بخلاف ما تلقّيتموه، فليكن محرومًا” (غلاطية 1: 9).

إنّ الصراعات الطويلة ضدّ الهرطقات والتي استمرّت قرونًا طويلة قد عزّزت المواقف اللاهوتيّة. فامتدّ اللاهوت الجداليّ واللاهوت الدفاعيّ، الذي تكوّن إثر المشادات اللاهوتيّة بين المسيحيّين، ليشمل الأديان الأخرى. فالقدّيس يوحنّا الدمشقيّ، الذي عاش مثل أبيه، في البلاط الأمويّ في دمشق بعد الفتح الإسلاميّ لبلاد الشّام، ألّف دفاعًا مسيحيًّا وضعه بين أيدي مسيحيّي سوريا حيث كان يُنظر إلى الإسلام على أنّه هرطقة مسيحيّة. هكذا كان اللاهوت في مواجهته الإسلام على مدى عدد من السنوات. ومن المؤكّد أنّه قد حصل في ظل حكم العبّاسيّين في بغداد حوار دفاعيّ صريح ورصين بين البطريرك النسطوريّ طيموثاوس والخليفة المأمون في حقبة عُرف فيها بلاط الخليفة بالتحرّر الفكريّ والانفتاح. يقول المطران جورج (خضر)، متروبوليت جبل لبنان الحاليّ، في دراسته “المسيحيّة في عالم تعدّديّ”، إنّنا نجد المقاربة الأكثر شجاعة للإسلام لدى الكنيسة النسطوريّة التي وصل نشاطها التبشيريّ إلى الصين؛ ذلك أنّـها (أي الكنيسة النسطوريّة) قد ذهبت إلى حدّ الاعتراف بنبوّة محمد على قاعدة الاعتراف بتحليل بعض نصوص رسالته.

  • شكّلت دراسة المطران (خضر) موضوع محاضرة خلال اجتماع اللجنة المركزيّة لمجلس الكنائس العالميّ في أديس أبابا العام 1971. فقد أثار فيها مسألة حضور المسيح خارج التاريخ المسيحيّ مذكّرًا بموقف آباء الكنيسة في ما يتعلّق ببذار الكلمة الإلهيّة ومستشهدًا بالقدّيس غريغوريوس النزينزي الذي كان يعتقد أنّ أفلاطون وأرسطو قد تلقّيا شعاعًا من الروح القدس، وأنّ “يد الله ترشد الناس إلى الإله الحقّ” من خلال الحياة الدينيّة التي تعيشها الإنسانيّة. وهو يرى أن النظرة اللاهوتيّة الغربيّة للأديان (كما كانت في العام 1971)، التي تعتبر أنّ الكنيسة-المؤسّسة هي محور العالم، إنّما هي انعكاس لتفوّق الغرب المزعوم. فبالنسبة إلى المطران جورج، يجب على الكنيسة، من خلال السرّ وكونـها دلالة عليه، أن تقرأ كلّ الدلائل الأخرى التي أوجدها الله في لحظات محدّدة من التاريخ. فقلّما يهمّنا أن تعتبر الأديان أنفسها غير منسجمة إحداها مع الأخرى ما دام المسيح موجودًا في كلّ مكان عبر إفراغه ذاته. إنّ كلّ قراءة للأديان هي قراءة للمسيح من خلال حضوره في الكتب المقدّسة البراهمانيّة والبوذيّة أو المحمّديّة. “الله، إذا شاء، يمكنه أن يقيم شهودًا للّذين لم يستطيعوا أن يعاينوا ظهور المسيح المجيد في الوجه الذي أدمته خطايانا وفي الرداء المهلهل الذي مزّقناه بانقساماتنا”. ويذكّر أنّ الوحدة المستقبليّة، بالنسبة إلى القدّيس نقولا كاباسيلاس، هي الوحدة بين الذين عمّدتـهم الكنيسة والذين كان عريس الكنيسة ليعمّدهم أيضًا. فالتبشير لا يقوم فقط على إضافة أعضاء جدد إلى الكنيسة، ولكن على التعرّف إلى القيم المسيحيّة الموجودة في الديانات الأخرى وعلى إظهار أنّ محبّة المسيح هي اكتمالها. وهذا يعني “إيقاظ المسيح النائم في ليل الأديان”(1). فالمطران جورج طبّق تفكيره هذا على الإسلام في مجلّة “Contacts” (1980، ص 104 وما يليها) ونشر مقالاً عنوانه “وجهات نظر أرثوذكسيّة حول الحوار بين الأديان” في مجلّة “الحوار الحاليّ”(2).
  • وبما أنّني أنتمي إلى كنيسة أنطاكيّة أرثوذكسيّة، أودّ أن أتحدّث باقتضاب عن فكر غبطة بطريركنا أغناطيوس الرابع حول مسألة التعدّديّة الدينيّة. فعندما دعي إلى التكلّم في افتتاح مؤتمر الحوار بين الأديان في بوخارست العام 1998، وضع لمداخلته عنوان “الله الخالق”، مشيرًا إلى أنّ لجميع النّاس الأهـمّيّة والكرامة ذاتـها في عينيّ الربّ بقوله: “الإنسانيّة كلّها، من بدء التاريخ حتّى نـهايته، هي التي تشكّل صورة الكائن (الذي هو من هو)” (غريغوريوس النيصصيّ)، ويضيف قائلاً:

“إنّنا مجتمعون هنا معًا لأنّ هذه هي إرادة الله فمجرّد وجودنا يجعلنا منفتحين أحدنا على الآخر في حضرة من يتحكّم بـهذا السرّ… بيد أنّ الله ليس مجرّد سرّ إنّه أيضًا محبّة. نعم، من وجه الآخر، كائنًا من يكون، وفي نبرة صوته، وفي ضوء عينيه، تكتشف وتحبّ الذي خلقنا جميعًا”.

يشدّد غبطته على أنّ الله هو الذي خلق كلّ إنسان حيث هو موجود وهذا يفرض علينا أن نعترف به إنسانًا فريدًا وأن نحبّه في كرامته واختلافه. غير أنّ قبول التعدّديّة لا يعني قبول جميع الأفكار والعقائد. بل على كلّ إنسان، في ملء حرّيّته، أن يسعى باحثًا عن الحقيقة في ضوء النور الذي يتلقّاه.

  • خلال مؤتمر “بار” الذي نظّمه مجلس الكنائس العالميّ بين 3 و8 أيلول 1993 حول “المعنى اللاهوتيّ للأديان الأخرى”، ذكّر رئيس أساقفة ألبانيا، المطران أنستاسيوس، الذي كان هو نفسه مبشّرًا في أفريقيا، أنّ فكر آباء الكنيسة الأولى تطوّر في مجتمع متعدّد الأديان، ويمكن أن يركّز أيّ تفكير أرثوذكسيّ في هذا الصدد على أربعة اعتبارات:
  • الأوّل هو عبارة القدّيس يوستينس “بذار الكلمة الإلهيّة”؛ علمًا أنّ البذار ليست متطابقة بالكلّيّة مع وجود الكلمة ونعمته.
  • الاعتبار الثاني ينطلق من جملة قالها القدّيس باسيليوس توسّع مفهوم “بذار الكلمة” (أو الكلمة المبثوثة) لا لتشمل العقل والحكمة البشريّين وحسب بل الإمكانيّة التي تمنحها هذه البذار للإنسان بأن يفضّل الخير ويحبّ. هذا يجعلنا قادرين على أن نفهم كيف يعيش معتنقو الأديان الأخرى بُعد المحبّة هذا، ويذكّرنا بكلام القدّيس يوحنّا: “أيّها الأحبّاء، فليحبّ بعضنا بعضًا لأنّ المحبّة من الله وكلّ محبّ مولود لله وعارف بالله (يوحنّا 4: 7)”.

وحيثما وجدنا شرارات أو تعابير عن الحبّ، سواء في إنسان، أو مجتمع أو ثقافة، فهذا دليل على أنّ الله يعمل. الحبّ في تجلّياته غير المنتظرة وفي ظروف غير متوقّعة يبقى هو معيار الحكم الأخير عندما يأتي ابن الإنسان، سيّد الحبّ، بمجده بعد أن يكون قد جمع حوله لا المسيحيّين فقط بل الأمم كلّها.

  • الاعتبار الثالث ينطلق من فكر القدّيس غريغوريوس النزينزيّ الذي يقول إنّ جميع البشر يحملون في داخلهم حنينًا إلى الله ورغبة في لقائه، بسبب الإلفة التي تربط الفكر البشريّ بما هو إلهيّ، ولكون الخطيئة لم تدمّر صورة الله. هكذا، يمكننا أن نفهم أديان الشرق التي، بسبب خلوّها من أيّ نبيّ، تبحث عن الوحي في الحكمة.
  • الاعتبار الأخير ينطلق من قول القدّيس مكسيمس المعترف إنّ “كلمة الله الآب موجود بشكل سرّيّ في كلّ وصاياه”. تاليًا، ثمّة وجود للمسيح في وصاياه. والذي يتلقّى إحدى الوصايا يتلقّى كلمة الله الموجود فيها. إذًا، كلّ إنسان يمارس المحبّة والتواضع والخدمة المنزّهة عن المصالح ويتقبّل الألم حتّى لو لم يكن يعرف سرّ المسيح، يتلقّى المسيح الكلمة. وهكذا، فالذي يتلقّى المسيح في وصاياه، ينال، بحسب القدّيس مكسيمس المعترف، الآب الساكن فيه والروح القدس الموجود معه.

ويوصي رئيس الأساقفة أنستاسيوس بمعرفة المسيح ليس فقط في التحليل التاريخيّ بل في التأمّل، واستدعاء الروح القدس الذي تقول عنه صلوات الكنيسة إنّه حاضر في كلّ مكان ومالئ الكلّ. ولكنّه يذكّر بأنّ الروحانيّة يجب أن تتّصل دائمًا بالخريستولوجيا وبعقيدة الثالوث.

  • سأقدّم مقاربة روحيّة إضافيّة للأديان الأخرى تميّز بـها أبي الروحيّ الأرشمندريت ليف (جيلله). كان الأب ليف من الأرثوذكس القلائل الذين كرّسوا كتابًا للمقاربة الأرثوذكسيّة لليهوديّة المعاصرة في كتابه “الشركة في المسيّا”. خلال رحلاته العديدة إلى الشرق الأوسط، تعرّف الأب (جيلله) إلى الإسلام بشكل حيويّ كبير عندما شغل منصب أمين سرّ المؤتمر العالميّ للأديان World Congress of Faith طوال خمس وعشرين سنة، وهي منظّمة تُعنى بإطلاق الحوار بين المسيحيّين ومؤمني الأديان الكبرى. وقد جمع آلاف الكتب من الأديان كافّة في ملفّات لم نحصها كلّها بعد، كما أنّه نظّم لقاءات بين الأديان ووضع خدمًا دينيّة مشتركة وكانت له اتّصالات هامّة مع البوذيّين والمسلمين والبهائيّين. وكتب في إحدى رسائله: “إنّني أجد اللوغوس لديهم جميعًا. وأجرؤ على القول إنّ المسيح هو من يحقّق الوحدة بين حياتي وسُبُله المتعدّدة”.

ويقول في رسالة أخرى: “كلّ وقتي وكلّ انتباهي يتركّزان حول المسيح الكامن في الأديان غير المسيحيّة والفاعل فيها”. وهذا ما دفع الأديبة والمفكّرة أليزابيت بير سيغل إلى أن تقول عنه “ولئن كان معاديًا لكلّ روح تلفيقيّة، ولكلّ ما قد يؤدّي إلى إنشاء كنيسة كبرى تكون خلاصة مصطنعة لجميع المعتقدات، فإنّه يتحسّس حركة الروح “الحاضر في كلّ مكان” بطريقة غير منظورة، والحنان المبثوث في العالم والذي يحتضن منذ البدء فوضى هذا العالم ويوجّه جميع الأشياء إلى اللوغوس، المسيح، الذي سيأتي في نـهاية الأزمنة”(3). ويكتب الأب جيلله في “مدخل إلى الروحانيّة الأرثوذكسيّة”:

“لا تنحصر نعمة المعموديّة بتتميم سرّ المعموديّة: ربّنا يمنح هذه النعمة بشكل غير منظور للنفوس الحسنة المتعطّشة إلى الماء الحيّ، سواء وعت عطشها أم لا. هذه معموديّة الرغبة التي بإمكان الوثنيّ أو الملحد أن ينالها. فلمَ لا يرغب هو أيضًا بالحصول على حقيقة الله، لـمَ لا يحصل عليها حتّى لو لم يعطها اسمًا أو حتّى لو رفض اسمًا لا يستطيع أن يطلقه على “الحقيقة”؟

يجد الأب (جيلله)، في تفسيره حادثة شفاء المقعد في بركة بيت حسدا (يوحنّا 5)، أنّ البركة هي رمز الكنيسة التي يحقّق فيها وجود المسيح عمل الخلاص. ولكنّه يقول إنّ المسيح يصادف أيضًا أناسًا خارج البركة ويشفيهم. ومن هذا المنطلق يقول في كتابه “يسوع: نظرات بسيطة للمخلّص” (ص47): “لم يكن العبرانيّون يعرفون نورًا آخر سوى ذلك النور المتأتّي من عمود النار الذي كان يقود شعب إسرائيل في البريّة. وكان هذا النور نورًا محدودًا، مرحليًّا، خاصًّا بشعب معيّن وبحقبة زمنيّة معيّنة. أمّا يسوع فيعلن أنّه هو نور العالم، النور الأبديّ والعالميّ. النور الذي يضيء كل إنسان آتٍ إلى العالم: مبارك أنت يا ربّ لأنّ نورك يعمل في النفوس كلّها ولأنّنا نجده (وإن متكسّرًا) في جميع الأعراق والمعتقدات”.

  • من أجل الدخول في حوار مع المسلمين، يقترح اللاهوتيّ اليونانيّ المعاصر أستيريوس أرغيريو، المتخصّص بدراسة الإسلام والعلاقات بين الأرثوذكس والمسلمين في التاريخ، ثلاث مقاربات وهي (مجلّة Contacts، 1980):

أ – البعد الإسخاتولوجيّ لسرّ الخلاص: الزمن التاريخيّ الذي تعيشه الكنيسة ليس هو زمن الخلاص الذي تحقّق من الآن بل هو المكان والزمان اللذان فيهما يعمل الروح من أجل تحقيق الخلاص وتتميم التاريخ. من هنا إمكانيّة التحاور مع الإسلام حول البعد الإسخاتولوجيّ للخلاص ودور المسيح في نـهاية الأزمنة.

ب – شموليّة العهد: العهد مع نوح (وكان يمكنه أن يقول “العهد الآدميّ” نسبة إلى آدم، كما جاء لدى القدّيس إيريناوس) الذي يشمل الإنسانيّة كلّها. غير أن المسيحيّين، يقول أرغيريو، شدّدوا على العهد مع إبراهيم ووسّعوا نطاقه ليشمل نسله الروحيّ، أي كنيسة الأمم. لكنّ الإسلام يصرّ على حقوق إسماعيل كونه الإبن الأكبر – فهل يمكننا أن نتصوّر “تـهيئة إنجيليّة” مختلفة لشعب إسرائيل.

ت – يجب أن تستعيد الإكليزيولوجيا المسيحيّة لاهوت بذار الكلمة الإلهيّة وأن تعيد النظر فيه وتسعى إلى تطبيقه، وإن أمكن على ديانة تعترف بعيسى كلمة الله وتنتظر عودته في نـهاية الأزمنة.

  • وجّه فلاديمير لوسكي، في كتابه “اللاهوت الصوفيّ لكنيسة الشرق” (ص234)، أسئلة ترك أجوبتها مفتوحة وعهد إلى العناية الإلهيّة بالأسئلة المتعلّقة بحدود الكنيسة وبخلاص الذين لم يعرفوا النور في هذه الحياة.

غير أن أوليفييه كليمان، اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ الفرنسيّ، يقول في سيرته الذاتيّة الروحيّة “الشمس الأخرى” (ص155):

“بشأن تعدّد الأديان الذي كنت أحدّثه عنه، لفت لوسكي انتباهي إلى النصوص التي يذكر فيها القدّيس مكسيمس المعترف تجسّدات اللوغوس – كلمة الله وحكمته – الثلاثة: التجسّد الكونيّ في الجوهر الروحيّ للأشياء، التي يجمعها الحكيم ويقدّمها قربانًا، وهذه أفضل تقاليد الهند القديمة؛ التجسّد في الشريعة عندما ارتسم تاريخ الخلاص مع دعوة إبراهيم ثمّ في العهد مع موسى، وهذا هو معنى “أديان الكتاب” أي اليهوديّة والإسلام؛ وأخيرًا المسيح، وهو الأصل الذي يلخّص في ذاته معنى التاريخ والكون ويعيده إلى وضعه الأمثل”.

  • ويورد أوليفييه كليمان، في كتابه Sources (ص35)، ما يقوله لوسكي بشأن “تجسّدات” الكلمة الثلاثة ويستشهد بنصّ مكسيمس المعترف (Antigua, PG.91, 1285-1288):

“الكلمة يتكثّف ويتجسّد. يمكن أن نفهم ذلك، للوهلة الأولى، بأنّه تجرّأ (أو تنازل)، في مجيئه بالجسد، أن يتكثّف ويتّخذ جسدًا… ويمكن تفسير ذلك أيضًا بأنّه، لفرط محبّته بنا، يختبئ بسرّيّة في الجوهر الروحيّ للمخلوقات وفي الكثير من الحروف (الكلمات)، ويكون موجودًا فيها بكلّيّته… أخيرًا يمكن أن نفسّر ذلك بأنّه، لفرط محبّته لنا،نحن البطيئي الفهم، تنازل وتجسّد في الحروف والمقاطع الصوتيّة وفي معنى الكتاب المقدّس لكي يحملنا على اتّباعه ويوحّدنا بالروح”.

ويضيف أوليفييه كليمان: “اتّخاذ الكلمة جسدًا بشريًّا يكمل معاني تجسّداته الكونيّة والكتابيّة، فالتجسّد يعتق الأولى (أديان الحكمة) من تجربة احتواء “الذات” في كيان إلهيّ لا شخصيّ، والثانية (ديانات الكتاب) من تجربة الفصل بين الله والإنسان والقضاء على الشركة بينهما”.

  • لقد أدّى تحضير الكنائس الأرثوذكسيّة للجمعيّة العامّة لمجلس الكنائس العالميّ في فانكوفر والتي كان موضوعها “يسوع المسيح حياة العالم” إلى نشر كتاب يجمع مساهمات عدد من اللاهوتيّين الأرثوذكس حول هذا الموضوع. وقد شدّدت المساهمات كلّها على البعد الكونيّ للخلاص الذي يتحقّق بيسوع المسيح الذي، بتجسّده، لم يتّحد الكلمة بجسم بشريّ وحسب بل بجسد الإنسانيّة والكون. وقد أعلن المتروبوليت مار أستاتيوس جيفاركيزي من الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة في الهند، مشيرًا إلى النظرة الخريستولوجيّة التي تتجلّى في إنجيل يوحنّا:

“من الخطأ فصل المسيح عن الكلمة-اللوغوس الكونيّ الذي يعمل في الخليقة كلّها وفي الأديان والإيديولوجيّات كافّة. فالله أوجد الحياة بواسطة اللوغوس وافتدى الإنسانيّة باللوغوس المتجسّد وهو يتمّم الهدف المخبّأ منذ إنشاء العالم بالابن والروح… فإذا كانت ثمّة حياة بيولوجيّة، أخلاقيّة أو دينيّة حقيقيّة في العالم، فهي تأتي من اللوغوس قبل تجسّده – الذي هو عينه ابن الله المتجسّد”.

  • في التقرير الذي أعدّه الأرثوذكس تحضيرًا لاجتماع كانبيرا حول موضوع “تعال أيّها الروح وجدّد الخليقة”، شدّدوا على دور الروح القدس في الخلق وسرّ الخلاص كالآتي:

“على الرغم من أنّ الروح القدس يكوّن الكنيسة ويعمل في حياتـها. فإنّ روح الله ليس موجودًا فيها وحدها وليس هو بمحدود بـها (أي بالكنيسة). الروح موجود في كلّ مكان. وهو يهبّ حيث يشاء. إنّ الطابع الإسراريّ للروح القدس يساعدنا باستمرار على التعالي عن كلّ الرؤى الضيّقة في ما يتعلّق بعمله. فالروح يعمل في الخليقة بأسرها وإن لم يعِ الجميع هذا الأمر. ويقع على عاتق المؤمنين أن يميّزوا وجود الروح القدس حيث ثمار الروح منظورة وأن يستدعوا قدرة الروح في كلّ الحالات التي نجد فيها الحقيقة مشوَّهة أو مُساء إليها”.

في هذا الإعلان دعوة إلى التعرّف إلى ثمار الروح المنظورة في العالم وتاليًا في المؤمنين غير المسيحيّين، كتبرير لمقاربة التعدّدية الدينيّة لا انطلاقًا من اللاهوت بل من الواقع الدينيّ للعالم في مواجهة الفكر اللاهوتيّ.

  • ولكن في كانبيرا، عندما تمّ تقديم موضوع الروح القدس من قبل عالمة لاهوت كوريّة، اعتبرت أنّ الروح القدس موجود في حركات التحرّر وفي الأرواح الكوريّة الموجودة في الأجداد والمياه، أثارت المداخلة استنكارًا قويًّا في صفوف ممثّلي الكنيسة الأرثوذكسيّة. فقد وجدوا أنّـها تحتوي نوعًا من التلفيق الدينيّ. والبيان الذي أصدروه يوضح الموقف الأرثوذكسيّ من طريقة مقاربة مسألة الحوار بين الأديان؛ في ما يلي مقتطفات من البيان:

تثير هذه المداخلة قلق الأرثوذكس. والأرثوذكس، إذ ينتظرون النصّ النهائيّ، يلاحظون أنّ البعض يؤكّد حضور الروح القدس بدون تمييز في بعض الحركات والتطوّرات. ويودّ الأرثوذكس أن يشدّدوا على أنّ الخطيئة والخطأ موجودان في كلّ مشروع إنسانيّ وأنّه يجب أن نفصل الروح القدس عنها. علينا أن نحذّر من أيّ ميل إلى إحلال أيّ روح خاصّ، أكان روح هذا العالم أو غيره من الأرواح، محلّ الروح القدس المنبثق من الآب والمستقرّ في الابن. تقليدنا غنيّ جدًّا لجهة احترام الثقافات المحلّيّة والوطنيّة ولكنّه يتعذّر علينا استدعاء “أرواح الأرض والهواء والماء والمخلوقات البحريّة”. فالروحانيّة لا تنفصل عن الخريستولوجيا وعن عقيدة الثالوث القدّوس التي تعترف بـها الكنيسة على أساس الوحي الإلهيّ”.

تعريب كاترين سرور

  • النصّ الإنكليزيّ بقلم قسطنطين باتلوس في “الكنيسة الأرثوذكسيّة في الحركة المسكونيّة” (ص، 297).
  • Current Dialogue 1991/1
  • Elisabeth Behr-Siegel: Un moine de l’Eglise d’Orient p.515.

 

مجلة النور كانون الثاني 2003، ص 13-18.

 

 

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share