ألبير لحام
ورد في العدد الخامس، السنة 61، من مجلّة “النّور” خبر ومقالة يتعلّقان بالحوارات الدينيّة الأرثوذكسيّة.
1- أمّا الخبر فهو اجتماع اللجنة الأرثوذكسيّة التي تُعنى بالحوار مع الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة. ولفتني أنّ المجلّة أهملت ما ورد في بيان الاجتماع عن اشتراك ممثّلين عن الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، هما الأب الأستاذ فالنتين (أسموس) الذي قدّم ورقة حول الصعوبات اللاهوتيّة التي يواجهها الحوار، واللاهوتيّ الأستاذ سرجيوس كوفوروم الذي تناول موضوع الحوارات الثنائيّة المستمرّة بين الكنيسة الروسيّة وبعض الكنائس الشرقيّة وتحفّظات الكنيسة الروسيّة بخصوص الاتّفاق في لجنة الحوار المشتركة بين الكنائس الأرثوذكسيّة والشرقيّة لاسيّما لجهة رفع الحرمات الكنسيّة.
أرى أنّه من الضروريّ أن يعرف القرّاء أن الكنيسة الروسيّة، رغم تلك التحفّظات، تتابع الحوار مع بعض الكنائس الشرقيّة وتشترك في اللجنة الأرثوذكسيّة للحوار، التي قرّرت أن تأخذ في الاعتبار هذه التحفّظات قبل أن تتابع الحوار مع الشرقيّين.
وللمناسبة لا بدّ من التذكير بأن لجان الحوار اللاهوتيّ، سواء مع الشرقيّين أو مسيحيّي الغرب، لا سلطة لها لإعلان أيّ اتّفاق عقائديّ. فهي ترفع نتيجة عملها إلى المجامع المقدّسة للكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة التي يعود لها أن تقرّر قبول توصيات اللجان. فإذا لم تتوصّل الكنائس المستقلّة إلى رأي واحد يعرض الأمر على المجمع المقدّس الأرثوذكسيّ الكبير عند انعقاده.
2-وأمّا المقالة، فهي بقلم الأب أنطوان (ملكي) وعنوانـها “كنيسة دمّر” وقد طرحت بعض التساؤلات التي يثيرها التكريس المشترك في دمّر (وحلب؟) لكنيسة يستعملها كلّ من الأرثوذكس والروم الكاثوليك لإقامة خدمهم الدينيّة. لا شكّ في أنّ تساؤلات الأب (ملكي) هي جدّيّة وشرعيّة. ولكن، استوقفني انتقال الأب (ملكي) من موضوع كنيسة دمّر إلى شجب جميع الحوارات الدينيّة – الثنائيّة والمتعدّدة الأطراف – التي تشترك فيها الكنائس الأرثوذكسيّة، وحجّته على ذلك هي أنّ بعض أطراف الحوار يعملون على اقتناص الأرثوذكس في كنائس روسيا وأوكرانيا وغيرها، وأنّ مؤتمراً للاهوتيّين الأرثوذكس انعقد في أيلول 2004 في تسالونيكي في اليونان أوصى بالانسحاب من لجان الحوار القائمة “حتّى يتسنّى للأرثوذكس أنّ يبشّروا فعليّاً بالإيمان الصحيح”.
والسؤال هنا هو أوّلاً ما إذا كان الانسحاب من الحوارات من شأنه أن يؤدّي إلى وقف الاقتناص. لقد كانت كنيستنا الأنطاكيّة قبل النصف الثاني من القرن الماضي منكمشة على ذاتـها بصورة دفاعيّة بسبب هجمات الإرساليّات والكنائس الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة، إلا أنّ موقفها هذا لم يحل دون استمرار الاقتناص بشكل متزايد، في حين أنّ الحوار مع الكنائس البروتستانتيّة محلّيّاً، وعالميّاً في مجلس الكنائس العالميّ، أدّى إلى اتّخاذ قرارات صريحة تشجب الاقتناص. وأمّا مع الكنائس الكاثوليكيّة في المدى الأنطاكيّ فمن المعروف أنّ الحوار بين بطاركة الكنائس الأرثوذكسيّة والشرقيّة من جهة وبطاركة الكنائس الكاثوليكيّة من جهة أخرى أدّى إلى وقف بعض الممارسات الخاطئة التي كانت تؤدّي إلى اقتناص الأرثوذكسيّين.
والجدير بالذكر أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة قد أقامت لجنة مشتركة مع الكنيسة الكاثوليكيّة هدفها التحقيق في ما تشكو منه الكنيسة الروسيّة من ممارسات شاذّة والعمل على إزالتها.
هذا مع العلم أن الاقتناص تمارسه بعض الشيع البروتستانتيّة ضدّ الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت على السواء، وهذه الشيع ليست أعضاء في مجلس الكنائس العالميّ، أو في الحوارات الدينيّة الأرثوذكسيّة، وهي تـهاجم كلّ نشاط مسكونيّ على العموم.
أمّا القول إنّ الانسحاب من الحوارات الثنائيّة ومجلس الكنائس العالميّ يفسح في المجال للتبشير فعليّاً بالإيمان الأرثوذكسيّ الصحيح فهو يفترض أنّ الحوار حال ويحول دون البشارة الأرثوذكسيّة. في حين أنّ البشارة الأرثوذكسيّة تقوم على الحياة في المسيح مقرونة بكلمة الإيمان (رومية 10: 8) التي تسعى الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى التعبير عنها في الحوارات اللاهوتيّة. وقد أدّى ذلك إلى معرفة أدقّ وأوسع وإلى احترام أعمق للإيمان الأرثوذكسيّ في القرن العشرين.
أجل إنّ الحوارات الدينيّة مع المسيحيّين صعبة لأنّـها تواجه أجيالاً من التباعد والابتعاد عن الإيمان الرسوليّ الأرثوذكسيّ. لذلك كان الهدف المعلن للحوارات أن تعطي الأرثوذكسيّة شهادة حيّة عن الإيمان الرسوليّ (1 بطرس 3: 15) وعن الكنوز الروحيّة المعطاة لها بالنعمة الإلهيّة (2 كورنثوس 4: 7)، متّكلة على عمل الروح القدس، على رجاء أن تمهّد الطريق إلى الوحدة التي أرادها الربّ يسوع، وهي “أن يجمع أبناء الله المتفرّقين إلى واحد” (يوحنّا 11: 52) في كنيسته الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة.
وأمّا مواقف الأرثوذكس في مجلس الكنائس العالميّ التي تعبّر عن الإيمان القويم فقد أعلنت عنها بيانات ومقرّرات عديدة منذ الستّينات من القرن الماضي، لاسيّما بيان مطران ليننغراد نيقوديم في أوبسالا 1968، وبيان البطريركيّة المسكونيّة لمناسبة مرور 25 سنة على إنشاء المجلس السنة 1973، وبيان بطريرك موسكو والروسيا كلّها بيمن السنة 1974، وقرار اللجنة الإعداديّة للمجمع الأرثوذكسيّ العامّ المقدّس 1986، وبيان المندوبين الأرثوذكسيّين المستقلّة إلى الجمعيّة العموميّة للمجلس في كامبيرا 1991، وبيان رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة المجتمعين في الفنار 1992، وبيانات كلّ من البطريركيّات المسكونيّة والروسيّة والرومانيّة حول “مفهوم واحد ورؤية مشتركة للمجلس” السنة 1996، حيث انتقل الموقف الأرثوذكسيّ من شجب بعض التيّارات التي ظهرت في المجلس في التسعينات إلى المطالبة بتغيير أسس العمل فيه. وجاء مؤتمر “تقويم المستجدّات بين الأرثوذكسيّين والمجلس” في تسالونيكي 1998 وبيان الكنائس الأرثوذكسيّة في الجمعيّة العموميّة للمجلس في زمبابوي في كانون الأوّل 1998، تعبيراً عن هذا الموقف الأرثوذكسيّ. فانبثقت من الجمعيّة العموميّة المذكورة “لجنة دائمة خاصّة حول اشتراك الكنائس الأرثوذكسيّة في مجلس الكنائس العالميّ” نصف أعضائها من الأرثوذكس والنصف الآخر من ممثّلي المجلس. وقرّرت اللجنة المشتركة تغيير أسلوب العمل في المجلس بحيث تؤخذ قراراته بالاتّفاق وليس بأكثريّة الأصوات، ممّا يقتضي إعادة النظر في جدول أعمال المجلس ونظام المناقشات فيه ونظام صلوات المجلس.
يبدو أن مؤتمر اللاهوتيّين في تسالونيكي السنة 2004، وهو لم يكن مؤتمراً للكنائس الأرثوذكسيّة، ما يفسّر عدم تمثيل الكنيسة الأنطاكيّة فيه، لم يعط هذه التطوّرات الخطرة في مجلس الكنائس العالميّ القدر الذي تستحقّه من الاهتمام عندما أوصى بأن تنسحب الكنائس الأرثوذكسيّة من جميع الحوارات المسكونيّة.
يبقى أن الموقف السليم من المسكونيّات لا يكون بأن يتّهم بعض الأرثوكسيّين البعض الآخر بالأصوليّة الدينيّة أو أن يتّهم بعضهم الآخرين بالانحراف عن الإيمان القويم، بل يقوم على دراسة موضوعيّة هادئة للمستندات والبيانات الصادرة عن الكنائس الأرثوذكسيّة في هذا المجال ومناقشتها بروح الإيمان والمحبّة والاحترام المتبادل للمساهمة في إبراز موقف أرثوذكسيّ جامع موحّد، بحيث “يجري كلّ شيء للبنيان” (1 كورنثوس 26: 14) “إلى أن نصل كلّنا إلى وحدة الإيمان، إلى ملء قامة المسيح” (أفسس 4: 13).
مجلة النور تموز 2005، ص 377-379