القداسة حياة يوميّة

الأب جورج مسّوح Tuesday January 31, 2006 165

كتاب “وجوه من نور” للأب إيليّا (متري) كتاب فريد من وجوه عدّة. فهو لا يصنَّف في باب الرواية، ولا القصّة القصيرة، ولا الشِّعر، ولا في أيّ باب من أبواب الأدب. ولا يمكن تصنيفه، دينيًّا، في باب الحِكم والأمثال، أو التأمّلات الروحيّة والنسكيّة. إنّه مجموعة جزئيّات من شهادات متناثرة هنا وثمّة، قام الكاتب بلملمتها وصوغها في قالب أدبيّ رفيع، ولغة تخترق القلب على الرغم من بلاغتها.

الموضوع الرئيس، وربّما الوحيد، للكتاب هو القداسة. فمؤلّفه شاء أن يذكّرنا بأنّ القداسة ممكنة في عصرنا الحاضر، وأنّ كلّ إنسان، بلا أيّ استثناء، مدعوّ إلى السعي إليها. لذلك نرى الكاتب يجري وراء قصص وروايات عن أشخاص، مثلنا، منهمكين في خضمّ الهموم اليوميّة، شهدوا بـ«إيمان ورجاء ومحبّة» نائين عن دنس هذا العالم وشهواته الطاغية.

هي شهادات تمسّنا في الصميم. فالناس المذكورون في الكتاب بشر ربّما التقيناهم ولم نلتفت إليهم، ولم نعرهم أيّ اهتمام. ربّما نحيا معهم، أو صادقناهم ورافقناهم وعملنا معهم تحت سقف واحد، ولم يثيروا عندنا أيّ انبهار أو دهشة. فنكتشف، على حين غفلة، أنّهم، في جزئيّة بسيطة من جزئيّات حياتهم، قد تقدّموا في درب القداسة.

معظم هؤلاء الناس لم يدرسوا اللاهوت، ولم يدرّسوه، لم يتكرّسوا في الكهنوت ولا في الرهبنة. لا شكّ في أنّهم أنصتوا أكثر ممّا تكلّموا، حفظوا أكثر ممّا ثرثروا، رأوا مجد اللَّه يسمو على أيّ مجد آخر. وفضلهم، أنّهم على الرغم من ضوضاء الدنيا وضجّتها، وعلى الرغم من همومهم اليوميّة والمعاشيّة وتأمين قوت أولادهم وعيالهم، أنّهم فهموا أنّ القداسة ليست حكرًا على أحد، وأنّ القداسة أكثر من ممكنة في «العالم» الذي يبدو أنّ الشيطان لا يسوده كلّه.

فضيلة الأب إيليّا أنّه يرينا القداسة متوفّرة خارج الكتب التراثيّة التي جمعت، ولا تزال تجمع، سير القدّيسين. ولسنا، هنا، والعياذ باللَّه، في صدد التقليل من أهمّيّة هذه الكتب، ولا سيّما كتب «السنكسار»، ولا التقليل من الجهد الجبّار والمبارك الذي يقوم به المختصّون من أجل نشره، في عربيّتنا المدعوون كافّة إلى البشارة بها. غير أنّنا نريد أن نلقي الضوء على ما أضافه كتاب «وجوه من نور»، من حيث البشارة، على ما قام به هؤلاء.

أهمّيّة القدّيسين تكمن في أنّ الكنيسة، عبر سردها حيواتهم وما جرى معهم من أحداث، أرادت أن تقدّم لنا نماذج من بشر، من لحم ودم، استطاعوا، بجهادهم، أن يبلغوا غاية الحياة المسيحيّة، أي الحياة في المسيح ومعه إلى الأبد. لذلك، تكرّمهم الكنيسة في أعيادهم والمناسبات التي أدّوا فيها أدوارًا بارزة، أو كان لهم فيها شأن كبير. والأمر الذي يستحقّ التنويه أيضًا، في هذا السياق، هو أنّ الكنيسة تولي التوبة أهمّيّة أكثر من الخوارق والعجائب لإعلان قداسة أحدهم أو عدمها.

التوبة هي الأساس، إذًا، والباقي من النوافل. غير أنّ كتب «سير القدّيسين» كثيرًا ما تعطينا نماذج قدّيسين يبدون كأشخاص يفوقون البشر، أو تصوّرهم كأنّهم كائنات تفوق البشر، «سوبرمان» لا يمكن الاقتداء بهم أو بأفعالهم. وعلى سبيل المثال، ما جدوى أن تذكر إحدى سير القدّيسين أنّ أحدهم كان يمتنع منذ اليوم الأوّل لميلاده، بملء إرادته، عن الرضاعة من أمّه يومَي الأربعاء والجمعة؟ ألا يوحي ذلك للقارئ بأنّ القداسة لا تعنيه، وليست من شأنه، لأنّه لم يمتنع عن الرضاعة كالقدّيس المذكور منذ يومه الأوّل على هذه الفانية؟ أليس خطرًا أن توحي بعض كتب القدّيسين بأنّ القداسة فطريّة، لا مكتسبة؟ فيشعر القارئ بأنّه غير مدعوّ إلى القداسة، لأنّ الربّ لم يخلقه مفطورًا عليها كما خلق سواه ممّن يقرأ سيرته؟

الوظيفة الأولى لكتب الإيمان هي حثّ المؤمنين على الاقتداء بالربّ أوّلاً، والاقتداء بالقدّيسين الذين اقتدوا به. غير أنّ بعض القصص التراثيّة تجعل المؤمنين في غربة تامّة عن التمثّل بحياة القدّيسين الذين عاشوا في زمان مختلف، وفي عصر لا يشبه عصرنا. لذلك، فرضت ذاتها الحاجة إلى قداسة تحاكي إنسان اليوم، وإلى نماذج معاصرة قد لا تكون بلغت نهاية المطاف. ومع ذلك فهذه النماذج لديها ما تقوله لإنسان اليوم في جزئيّة نأخذ منها عبرة لنفعنا في جهادنا، ولبنياننا إلى ملء قامة المسيح.

الأب إيليّا يبسط أمامنا نتفًا من قداسات توصّل إليها البعض ممّن يشبهوننا، ممّن يعاصروننا، ممّن نلتقي بهم ولا نحسّ بإشعاعاتهم. ولكنّه أيضًا يقدّم لنا نماذج متقدّسة ممّن يعتبرهم الناس دونهم في البشريّة، ممّن هم باتوا بلا أسماء، باتوا ينادَون بجنسيّاتهم. ولنا في قصص مدبّرات المنازل الآسيويّات والإفريقيّات وكيف بشّرنَ أرباب عملهنّ وأرشدنهم إلى الإيمان، درسٌ عظيم. هنا تجدر الإشارة إلى بديهيّة كبرى، وهي أنّ القداسة غير حصريّة، إذ إنّها ممكنة خارج حدود الكنيسة الأرثوذكسيّة. وهذا كلّه ليقول لنا إنّنا نحن أيضًا في وسعنا أن نتقدّس في هذا العالم، ونحن نمارس أعمالنا، ونهتمّ بشؤون أهلنا وعائلاتنا.

يقول لنا هذا الكتاب إنّ القداسة ليست حكرًا على فئة دون أخرى في الكنيسة. كلّنا مدعوون إليها أنّى كنّا ونكون. المتزوّج كالمتبتّل، والذكر كالأنثى، الشابّ كالشيخ، العامل كربّ العمل، الخادم كالسيّد. والمؤلّف يدعونا، في كتابه القيّم، إلى التزام القداسة مشروعًا شرعيًّا وحيدًا نسعى إليه خلال حياتنا كلّها، إلى السلوك بحسب قلب اللَّه.

أجرؤ على القول، ختامًا، إنّ الأب إيليّا، في كتابه «وجوه من نور»، أضحى صاحب بدعة، لكن ليس كلّ بدعة مهلكة. على العكس تمامًا، إنّها لبدعة محمودة وممدوحة. ونحن بانتظار الآتي، ننتظر الكتاب الشقيق لهذا البكر.

 

 

مجلة النور، العدد الأول 2006، ص 45-46

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share