دور الشباب في الكنيسة والعمل المسكونيّ

ألبير لحام Tuesday February 7, 2006 568

أوّلاً: ما هي الكنيسة

لكي نحدّد دور الشباب في الكنيسة، لا بدّ من الكلام على ماهيّة الكنيسة وما هو دور العلمانيّين عموماً فيها، ثمّ دور الشباب، إذا كان لهم من دور خاصّ في الكنيسة.

  • الكنيسة ليست مؤسّسة

يقول اللاهوتيّ الكبير الأب (بولغاكوف) في كتابه “الأرثوذكسيّة”:

“الأرثوذكسيّة كنيسة المسيح على الأرض، كنيسة المسيح ليست مؤسّسة، إنّـها حياة في المسيح بالروح القدس”.

كنيسة المسيح ليست مؤسّسة كسائر المؤسّسات العالميّة، ليست جمعيّة طائفيّة. والأمور الإداريّة والماليّة والاجتماعيّة في الكنيسة، بما فيها العمل الاجتماعيّ والتعليميّ، ليست أموراً إداريّة أو ماليّة أو اجتماعيّة محضة، بل هي متّصلة جوهريّاً برسالة المسيح. إنّـها أعمال مقدّسة تؤول إلى خدمة عمل الخلاص الذي هو شفاء النفوس والأجساد وإعدادها للاشتراك في سرّ ثالوث المحبّة وإلى إشراكها في هذا السرّ منذ الآن. فمثلاً القندلفت، الذي ينظّف الكنيسة، إنّما يساهم في عمل الخلاص، إذ يعدّها لاجتماع البيعة المقدّسة حيث يحلّ الروح القدس مقدّساً الشعب والقرابين.

  • الكنيسة جسد المسيح – امتداد التجسّد

يقول الرسول بولس إنّ الكنيسة هي جسد المسيح. فبالتجسّد اتّحد الكلمة بطبيعتنا البشرية بكاملها ما عدا الخطيئة. لم يتّحد بشخص هو يسوع المسيح، كما يقول نسطوريوس. بل أخذ الطبيعة البشريّة، وأضفى عليها غنى مجده الإلهيّ في مبادلة تفوق الوصف. يقول القدّيسان إيريناوس وأثناسيوس: إنّ الكلمة صار جسداً، لكي يجعل الإنسان إلهاً بالنعمة. ويقول بطرس الرسول إنّ الربّ تجسّد لكي نصير شركاء الطبيعة الإلهيّة (2 بطرس 1: 4).

فإذا ما آمنّا بالربّ يسوع المسيح ومتنا معه إلى الإنسان القديم في المعموديّة، ونلنا موعد الروح القدس في سرّ الميرون المقدّس وختمنا على جباهنا بإسم الآب (رؤيا 7: 5 و14: 10)، وقبلنا الخبز السماويّ وكأس الحياة، أي جسد الربّ ودمه، صرنا معه وفيه جسداً واحداً ومع جميع الذين يتناولون الجسد عينه.

يقول الرسول: “نحن، على كثرتنا، جسد واحد لأنّ هناك خبزاً واحداً، ونحن كلّنا نشترك في هذا الخبز الواحد (1 كورنثوس 10: 17)، ويقول أيضاً: “نحن جميعاً تعمّدنا بروح واحد، لنكون جسداً واحداً، وارتوينا جميعاً من روح واحد” (1 كورنثوس 12: 13). فهذا الجسد الواحد هو الكنيسة التي رأسها المسيح، وهي ملء الذي يملأ الكلّ” (أفسس 1: 23) فإذا كانت الكنيسة ملء المسيح، فالمسيح الكامل، يقول القدّيس أغناطيوس، هو “الرأس والأعضاء”. المسيح هو الرأس الذي “تخضع له الكنيسة في كلّ شيء (أفسس 5: 24). وأمّا نحن، كأعضاء المسيح أفراداً (1 كورنثوس 12: 27)، فينبغي أن ننمو في كلّ شيء إلى الرأس (أفسس 4: 15). وأن نعيش عيشة تليق بدعوتنا هذه”.

الكنيسة هيكل الروح القدس، استمرار العنصرة

     الكنيسة جسد المسيح هي أيضاً هيكل الروح القدس الذي أرسله الإبن من لدن الآب، ليقيم في الكنيسة، وهو الذي يتمّم الأسرار المقدّسة، وأهمّها سرّ الشكر (الإفخارستيّا)، وهو سرّ الأسرار، وهو يكشف سرّ الكتاب المقدّس، ويبني المؤمنين مسكناً للربّ في الجسد الواحد، ويكشف ويعلن لهم سرّ الملكوت، ويستحضره في الخدمة الإلهيّة، ويوزّع على كلّ عضو في الجسد موهبة خاصّة لإظهار حكمة الله المتنوّعة.

بعد أن يؤكّد بولس الرسول أننا جسد المسيح، وأنّ كلّ واحد منّا عضو فيه، يقول “لكلّ واحد منّا أعطيت النعمة على قدر ما وهب له المسيح” (أفسس 4: 7)، ويقول: “أقام الله في الكنيسة أوّلاً الرسل وثانياً الأنبياء وثالثاً المعلّمين ثمّ مواهب شفاء ومعجزات وإسعاف وحسن الإدارة والتكلّم باللغات. ألعلّ الجميع رسل، ألعلّ الجميع أنبياء، ألعلّ الجميع معلّمون، ألعلّ الجميع يملكون موهبة الأشفية” (1 كورنثوس 12: 27 – 30).

لكنّه يضيف أنّ على الجميع أن يرغبوا في المواهب الحسنى وأعظمها المحبّة. طبعاً هذا التعداد للمواهب، في الرسالة إلى كورنثوس، ليس حصريّاً، وإن كان يشير إلى عدد من نشاطات الكنيسة، ويعتبرها مواهب خاصّة لمن أعطيت لهم. إلاّ أنّ الرسول نفسه عدّد مواهب أخرى في الجسد الواحد في رسالته إلى رومية، الإصحاح 12، عدد 6 إلى 8، داعياً مرّة أخرى إلى محبّة بلا رياء (وفي رسالته إلى أفسس 4: 11).

وتدعونا الكنيسة، في صلاة الختن، إلى تفعيل الموهبة المعطاة لكلّ منّا: “الواحد فليتزيّن بالحكمة بواسطة الأعمال الصالحة، والآخر فليكمل خدمة بـهيّة، الواحد فليعظ بالقول عن إيمان من عدم الاستنارة، والآخر فليبدّد الغنى على البائسين”.

هكذا، ليس في الكنيسة وظائف، بل مواهب. ليس في الكنيسة أعضاء بطّالون، فكلّ عضو مدعوّ إلى تنمية الموهبة المعطاة له، كما أنّ الجماعة والأسقف يكتشفون المواهب المعطاة لكلّ واحد، ويعترفون بـها لخير الجميع.

ثانياً: العلمانيّون في الكنيسة

ماذا نعني بالعلمانيّين؟ العلمانيّون هم جميع الذين بالإيمان اعتمدوا بإسم الثالوث الأقدس، ونالوا سرّ الميرون، واتّحدوا بجسد الربّ في سرّ الشكر. هم المدعوّون إلى القداسة ونشر كلمة الربّ وملكوته. هم المؤمنون بعامّة، أو عامّة الشعب. كلمة العلمانيّين غير واردة في الكتاب المقدّس والقوانين الكنسيّة، إذ يعرّف عنهم بالمؤمنين، أو بالشعب.

إذا قبلنا بـهذا التعريف، يكون الأساقفة والكهنة والشمامسة أساساً من العلمانيّين، لكنّهم مفروزون لخدمة الكلمة والأسرار ورعاية الشعب.

  • الكهنوت السرّيّ

رأينا، في الرسالة الأولى إلى كورنثوس، أنّ الله أقام أوّلاً في الكنيسة رسلاً. وفي الكتاب المقدّس، نرى أنّ الرسل أقاموا أساقفة وشيوخاً (صاروا يدعون بعد ذلك “كهنة”) وشمامسة كشهود لقيامة الربّ وخدّاماً للكلمة والأسرار والموائد (أي الاهتمام بالأرامل والفقراء) ورعاة لكنيسة الله التي افتداها بدمه (أعمال 20: 28).

  • الكهنوت الملوكيّ للعلمانيّين

إنّ الكهنوت السرّيّ، كهنوت الأساقفة والكهنة والشمامسة، لا يحول دون اشتراك المؤمنين جميعاً في كهنوت المسيح (وهو، في العهد الجديد، الكاهن الوحيد الذي قدّم ذبيحة نفسه المقبولة وحدها لدى الآب) كأعضاء في جسد المسيح. يقول الرسول بطرس، في رسالته الأولى: “كونوا كهنوتاً مقدّساً لتقديم ذبائح روحيّة مقبولة عند الله” (2: 4).

إنّ كهنوت المؤمنين الملوكيّ، في جسد الكاهن الأعظم، يجعلهم شركاء في خدمة الأسرار. إذ إنّ تلك الخدمة يقيمها الكاهن بإسم الشعب وبصيغة الجمع في معظمها، حتّى إنّ تقديس القرابين يتمّ باستدعاء الروح القدس عليها وعلى الشعب الواقف. فالمؤمنون يتضرّعون مع الأسقف الذي يقيم الخدمة، ويختمونـها باﻟ”آمين”، والأسقف خليفة الرسل ورئيس الخدمة، يؤكّد استجابة صلاة الجماعة.

ويقول في موضع آخر: أنتم نسل مختار، كهنوت ملوكيّ، أمّة مقدّسة شعب اقتناه الله لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب (1 بطرس 2: 9). أمّا يوحنّا الحبيب، في سفر الرؤيا، فيقول إنّ الربّ يسوع أحبّنا وغسلنا من خطايانا، وجعلنا ملكوتاً وكهنة لله أبيه (رؤيا 1: 6).

  • الشعب المحافظ على الإيمان الرسوليّ

إن الرّوح القدس، المقيم في جسد المسيح، أي الكنيسة، يرشدها إلى كلّ الحقّ (يوحنّا 16: 12). وبـهذا الروح عينه يصبح المؤمنون مؤتمنين على حقيقة إنجيل الخلاص، أي على الإيمان القويم “الذي سلّم مرّة إلى القدّيسين” (يهوذا 3)، والقدّيسون هنا هم المؤمنون. وهذا التسليم، الذي يحصل باستمرار بنعمة الروح القدس، هو التقليد الشريف الذي يحافظ عليه الشعب الحسن العبادة. وكما أنّ “الإخوة”، أي المؤمنين، شاركوا في المجمع الرسوليّ الأوّل في أورشليم (أعمال 15: 22 و23)، وكذلك أعلن بطاركة الشرق الأرثوذكسيّ، في رسالتهم إلى بابا رومية السنة 1848، أنّ حارس الإيمان الأرثوذكسيّ هو جسم الكنيسة، أي الشعب نفسه، مع أنّ الأساقفة يحكمون في أمور الإيمان على ضوء التقليد المقدّس الذي يحافظ عليه المؤمنون.

  • الشعب أداة الربّ في البشارة والخدمة

إذا كان الأساقفة والكهنة مسؤولين عن البشارة، إلاّ أنّ العلمانيّين هم، بالحقيقة، شهود للربّ ومشاركون في البشارة. ففي أعمال الرسل نرى أنّ المؤمنين، الذين تشتّتوا بسبب الاضطهاد في أورشليم، “أخذوا يتنقّلون من مكان إلى مكان مبشّرين بكلام الله، (أعمال 8: 4). أمّا الكنيسة الأنطاكيّة فقد تأسّست، أوّلاً، ببشارة المؤمنين الذين شتّتهم الاضطهاد أيضاً، حتّى إذا بلغ الخبر الكنيسة في أورشليم، أرسلوا برنابا الذي رأى النعمة التي وهبها الله للمؤمنين (أعمال 12: 19 – 23). أمّا كنيسة الكرج (جورجيا) فقد قامت، أوّلاً، ببشارة امرأة هي القدّيسة نينو. والعديد من الإرساليّات قامت، أوّلاً، ببشارة مؤمنين عاديّين، تـجّاراً ومهنيّين.

أمّا خدمة الكنيسة للفقراء والمرضى، فيقوم بـها المؤمنون كأعضاء للربّ يسوع. إنّ يد الربّ، في هذه الخدمة، هم أبناء الإيمان، أي أعضاؤه على الأرض الذين يكمّلون خدمته للمساكين والمنكسري القلوب والأسرى والعميان والمظلومين (لوقا 4: 18)، كمسحاء في المسيح.

والعلمانيّون هم وجه الكنيسة في العالم، يشهدون لإيمانـها ومواقفها في حياتـهم العائليّة والمهنيّة والاجتماعيّة والتزامهم قضايا الإنسان.

ثالثاً دور الشباب في الكنيسة

إذا كان ما ذكرته سابقاً هو موقع العلمانيّين، فهل من دور خاصّ بالشباب في الكنيسة؟ لا بدّ من التأكيد، أوّلاً، أنّ كلّ ما قلته عن الشعب الحسن العبادة ينطبق طبعاً على دور الشباب. لكنّي أودّ أن أضيف أن الرسول بطرس، في عظته يوم العنصرة، أكّد حلول الروح القدس على الشباب والشيوخ على السواء، وأعطاهم نعمة النبوّة، أي أن ينطقوا بعظائم الله ويعلنوا إرادته “في الأيّام الأخيرة، قال يوئيل النبيّ: “أفيض من روحي على جميع البشر، فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً. وعلى عبيدي، رجالاً ونساء، أفيض من روحي في تلك الأيّام، فيتنبّأون كلّهم” (أعمال 2: 17- 18).

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تشير إلى أنّ موهبة النبوّة قد تعطى أيضاً للشابّات والشبّان “بنوكم وبناتكم” (أعمال 21: 9)، أمّا الرؤى، التي يراها الشباب، فهي انكشاف سرّ الملكوت لإيمانـهم، فيصبحون شهوداً للقيامة وخدّاماً لكنيسة بـهيّة لا عيب فيها.

وفي سفر الأعمال مثلاً، نرى شابّاً، وهو استفانوس، يوبّخ العبرانيّين، وشهد للقيامة ولمجد الربّ، فكان أوّل الشهداء.

لكنّي أودّ أن أشير إلى رسالة يوحنّا اللاهوتيّ الرسول الأولى إذ جاء فيها: “كتبت إليكم أيّها الشباب لأنّكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرّير” (2: 14).

  • لأنّكم أقوياء

القوّة، التي يشير إليها الرسول، هي أوّلاً زخم الشباب واكتمال قوّته بعد الطفولة والمراهقة، وهو طموح الشباب واندفاعهم بعزم ثابت نحو الأفضل. إلاّ أنّ الرسول يكتب إلى الشباب المؤمن، لأنّه يصبو إلى القداسة، ويدخل مغامرة الصليب، ويجد في الصليب قوّة الله وسلاحه والطريق إلى الملكوت.

يقول الربّ يسوع: “إنّ ملكوت الله يؤخذ عنوة والغاصبون يختطفونه” (متّى 11: 12). وهذه المغامرة تستهوي الشباب المؤمن بقدر ما مغامرة الإصلاح السياسيّ والاجتماعيّ تستهوي الحزبيّين من الشبّان. فيكرّسون لها حياتـهم الخاصّة والعائليّة والمهنيّة. وقوّة الشباب هي مستمدّة من القدّوس القويّ الذي غلب الموت وأحيا الموتى، ومن الروح القدس الذي نلناه، لأنّ “الله لم يعطنا روح الخوف بل روح القوّة والمحبّة والفطنة” (2 تيموثاوس 1: 7).

وإذا كنّا بالمعموديّة نولد ولادة جديدة، فإنّنا نولد أطفالاً في المسيح، وعلينا أن ننمو فيه إلى ملء قامته. يقول الرسول: “لـمّا كنت طفلاً (في الإيمان) كنت أنطق كطفل، وأعمل كطفل وأفكّر كطفل، فلمّا صرت رجلاً أبطلت ما للطفل” (1 كورنثوس 13: 12).

وللأطفال في الإيمان يقول الرسول: “أنتم بحاجة إلى اللبن لا إلى الطعام القويّ، أمّا الطعام القويّ فيكون للكاملين الذين روّضوا حواسهم على التمييز بين الخير والشرّ (عبرانيّين 5: 12)، إلى هؤلاء الأقوياء، يكتب يوحنّا اللاهوتيّ، وإلى الشباب يقول بولس: “اثبتوا في الإيمان، كونوا رجالاً، تقوّوا” (1 كورنثوس 16: 13).

  • لأنّ كلمة الله ثابتة فيكم

كلمة الله هي، أوّلاً، كلمة الآب، الإبن الذي أحبّنا وبذل نفسه من أجلنا ودعانا أن نثبت فيه كما يثبت الغصن في الكرمة (يوحنّا 15: 8)، حتّى إذا تناولنا جسده واغتسلنا بدمه يثبت فينا ونحن فيه (يوحنّا 6: 56).

وكلمة الله هي أيضاً الكلمة المنقولة إلينا في الكتاب المقدّس، وبخاصّة العهد الجديد. وهي تكون ثابتة فينا إذا عرفناها معرفة عميقة كاملة. هذا يعني أنّه لا يكفي أن نسمع ما يتلى منها علينا في الخدم الكنسيّة، بل علينا مطالعتها يوميّاً حتّى يدخلنا الروح القدس أعماق معانيها، أو بالأحرى حتّى يدخلها أحشاءنا فتصبح فينا جسداً. حزقيال النبيّ، كما أمره الله، أكل سفر الكتاب وملأ أحشاءه منه، ولـمّا أكله صار في فمه لذيذاً كالعسل (3: 3). هكذا ينبغي أن يتغذّى الشباب بالكلمة الإلهيّة حتّى يثبتوا فيها. وهذا شرط لنقلها إلى أطفالنا وفتياننا. فالإنسان لا يستطيع أن ينقل إلى الآخرين ما لا يعرفه ويحياه.

  • وقد غلبتم الشرّير

هذه الغلبة نتيجة جهاد مستمرّ ضدّ تجربة الجحود والخطيئة. فالكلمة الإلهيّة، إذ تدخل قلوبنا، تثور ضدّها قوى إبليس، لتقتلها من حياتنا. فإبليس كأسد زائر يجول باحثاً عن فريسة له. فاثبتوا في إيمانكم، يقول بطرس الرسول (1بطرس 5: 8).

ومثل الزارع، الذي أعطاه الربّ يسوع، حذّرنا من التجارب التي تـهدّد الكلمة المزروعة في قلوبنا.

فالذين قبلوا الكلمة فرحين قد يرتدّون عن الإيمان عند التجربة. والذين سمعوا الكلمة قد تختنق فيهم إذا انصرفوا إلى هموم الدنيا وخيراتـها وملذّاتـها.

التجارب، التي تحوط بنا، لا تتعلّق بممارسة إيماننا فقط، بل بالمدنيّة التي تستبعد الله من الساحة العامّة، وتحصره في ميدان الفرديّة الذاتيّة. فبإسم الحرّيّة الشخصيّة انتشر الانفلات الأخلاقيّ، وتفكّكت العائلة، وانتشر الطلاق الحرّ، والممارسات المخالفة للدين المسيحيّ، وصار الطعن بالدين المسيحيّ والحياة المسيحيّة بإسم الأدب والفنّ والعلم المزيّف شائعاً في بعض أوساط “المثقّفين”، كما أنّ على شبابنا أن يواجهوا قضايا جديدة نتيجة تقدّم العلوم والتكنولوجيا وعلوم الجينات. على شبابنا اليوم أن يواجهوا تلك التيّارات، ثابتين في الإيمان بالذي قال: “تقوّوا، قد غلبت العالم”، وأيضاً: “لا تخف، أيّها القطيع الصغير، فإنّ أباكم السماويّ شاء أن ينعم عليكم بالملكوت” (لوقا 12: 32).

ولا يعتقد شبابنا أنّ ما يرزح العالم تحته اليوم من وطأة الشرير إنّما هو شيء جديد. تكفي مراجعة الكتاب المقدّس، لنرى أنّ المجتمع، الذي نشأت فيه المسيحيّة وانتشرت، لم يكن أفضل من عصرنا أخلاقاً وعبادات (رومية 1: 25 – 32؛ كورنثوس 6: 14 – 16).

“فلنلبس، مع الرسول، سلاح الله الكامل لكي نتمكّن أن نثبت ضدّ مكائد إبليس” (أفسس 6: 11). من يقظة روحيّة وسهر على نقاوة قلوبنا وصلاة مستمرّة، لاسيّما صلاة القلب بإسم يسوع، ومطالعة الكتب المقدّسة وسير القدّيسين، ومن أصوام واشتراك في سرّ التوبة وسرّ الشكر لغفران الخطايا وللنهوض من الكبوات بقوّة الناهض من بين الأموات، غير يائسين إذا ما سقطنا، ناسين، مع الرسول، ما هو وراءنا وممتدّين إلى ما هو قدّامنا (فيليبّي 3: 13)، مركّزين أبصارنا على رئيس إيماننا ومكمّله، لنتحوّل إلى شبه صورته، منتقلين من مجد إلى مجد (2 كورنثوس 3: 18).

هذا هو الصراع الذي يليق بشبابنا أن يمارسوه بتواضع وعناد وصبر ومخافة الله. هذه هي دعوتـهم في الكنيسة، حتّى يصيروا مثالاً للرعيّة وخادمين لها.

رابعاً: العمل المسكونيّ

ومن الأمور، التي يواجهها شبابنا في غربتهم في الغرب، وجود مسيحيّين آخرين خرجوا عن الإيمان الأرثوذكسيّ القويم بدرجات مختلفة، ولا نرتبط معهم بشراكة الأسرار المقدّسة. معظم هؤلاء يؤمنون بالربّ يسوع المسيح، إلهاً ومخلّصاً، ويحملون اسمه القدّوس ويعترفون بدستور إيماننا – باستثناء انبثاق الروح القدس من الآب وحده – ويظهرون غيرة للمسيح، وإن تكن غيرة بلا معرفة أحياناً، فكيف ينبغي أن تكون علاقاتنا بـهؤلاء المسيحيّين؟

  • التأصّل بالإيمان

لا بدّ لشبابنا وشابّاتنا، أوّلاً، من أن يكونوا في الإيمان الأرثوذكسيّ قادرين على الجواب عمّن يسألونـهم عن الرجاء الذي فيهم (1 بطرس 2: 15).

أن يتأصّل شبابنا وشابّاتنا بالإيمان القويم “فلا يبقون أطفالاً مضطربين تتقاذفهم أمواج المذاهب، ويميل بـهم كلّ ريح، فينخدعوا وينقادوا إلى الضلال، بل يعلنون الحقّ بالمحبّة” (أفسس 4: 14 – 15).

  • حوار المحبّة

من هذه القاعدة الإيمانيّة، على شبابنا أن يعرفوا معرفة دقيقة ما هو موقف المسيحيّين غير الأرثوذكسيّين من إيماننا وحياتنا الروحيّة. هذه من مقتضيات المحبّة الأخويّة. فالإنسان لا يمكن أن يحبّ ما يجهل. وبالمحبّة ذاتـها، على شبابنا أن يمتنعوا عن كلّ كلمة أو موقف يجرح الآخرين. فهؤلاء نعاملهم كأخوة لنا في المسيح، ونشكر الله أنّ علاقات أخويّة أصبحت تسود بيننا وبينهم.

  • حوار الحقيقة الإيمانيّة

وحدة المسيحيّين هدف تصلّي من أجله الكنيسة الأرثوذكسيّة في كلّ خدماتـها، لأنّـها إرادة الربّ يسوع في أن يكون تلاميذه واحداً حتّى يؤمن العالم (يوحنّا 17: 21). والكنيسة، في حواراتـها العقائديّة الثنائيّة والجماعيّة مع المسيحيّين الآخرين، ترجو أن يتعمّق إخواننا في إيمان الكنيسة الأولى قبل الانشقاقات، حتّى يجدوا فيها الطريق إلى تنقية إيمانـهم على ضوء إيمان الآباء القدّيسين والمجامع المقدّسة وممارسة الكنيسة الرسوليّة. ومن أراد من شبابنا وشابّاتنا أن يطّلع على ما آلت إليه، إلى الآن، الحوارات الثنائيّة مع الكنائس المسيحيّة الشرقيّة والغربيّة والحوار في لجنة الإيمان والنظام في مجلس الكنائس العالميّ، فلهم ذلك إذا طلبوه من ممثّلي كنيستنا في هذه الحوارات.

  • التعاون مع المسيحيّين الأوروبيّين
  • لا بدّ، أوّلاً، لشبابنا الأنطاكيّ من توثيق عرى المحبّة والوحدة في الإيمان والشهادة والخدمة مع إخواننا الشباب الأرثوذكسيّ غير الأنطاكيّ. فمن منطلق إيماننا الواحد يمكن أن ندرس معاً، ونواجه معاً، على ضوء خبراتنا الروحيّة، المسائل التي يطرحها على الأرثوذكسيّة المجتمع الغربيّ. وإذا نشأت في الأبرشيّة الأنطاكيّة حركة شبابيّة هدفها الحياة في المسيح وخدمة الكنيسة ورسالتها في المجتمع، فإنّ تلك الحركة يمكن أن تكون على تواصل مع حركات سندسموس، الرابطة العالميّة للحركات الأرثوذكسيّة، ومع الأخويّة الأرثوذكسيّة في أوروبا الغربيّة.
  • أمّا مع غير الأرثوذكسيّين من الحركات الشبابيّة المسيحيّة في الغرب، فلا بدّ لشبابنا وشابّاتنا من أن يتقيّدوا بما تقرّره الرئاسات الروحيّة الأرثوذكسيّة في أوروبا الغربيّة عبر “جمعيّات الأساقفة الأرثوذكسيّين” في كلّ بلد. كما أن كنائسنا الأرثوذكسيّة في أوروبا هي أعضاء في “هيئة الكنائس المسيحيّة الأوروبيّة” وعبرها في حوار عمليّ مع الكنائس الكاثوليكيّة الأوروبيّة. ومعاً، تواجه هذه الكنائس من منطلق إيمانيّ عدداً من المسائل الأخلاقيّة والاجتماعيّة وما يتعلّق بالبيئة والمحافظة على الخليقة. والجدير بشبابنا أن يطّلعوا على مواقف كنيستنا في تلك الجمعيّات والحوارات وأن يشتركوا في المجلاّت التي تنشر أخبارها.

مجلة النور 2006، العدد الأول، ص 33-39

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share