تعلو الأصوات المنادية بوحدة ما يسمّى “الصفّ المسيحيّ”. والأسباب المستوجبة لذلك لدى الداعين كثيرة، وتتبدّل بتبدّل الظروف. وآخر ظرف طرأ وفرض نفسه هو أزمة الكرسي الفارغ جسديًّا ومعنويًّا، جسديًّا منذ بضعة أيّام، ومعنويًّا منذ عقود عديدة.
كنّا لنغتبط لو كانت الدعوة إلى وحدة المسيحيّين دعوة إلى عودة المسيحيّين إلى عيش قيم الإنجيل وتحقيق تعاليم المسيح في هذه البلاد. ذلك أنّ لفظ “مسيحيّين” لا يشير إلى انتماء وطنيّ أو قوميّ معيّن، بل يشير إلى جماعة ذات هويّة دينيّة أو هويّة إيمانيّة تنتمي إليها أقوام وأمم شتّى. لذلك كان موضوع “وحدة المسيحيّين” وما زال إلى اليوم هاجسًا مرافقًا لكلّ الاجتماعات الكنسيّة ذات الطابع المسكونيّ. وقد كرّست الكنائس أسبوعًا في السنة للصلاة من أجل وحدة المسيحيّين.
كنّا لنغتبط لو لم تكن الدعوة إلى وحدة المسيحيّين هي دعوة إلى وحدة طائفيّة تحول دون أيّ عقد يمكن أن ينشأ بين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. هي وحدة تتناقض وأصول التنوّع الفكريّ والتعدّديّة السياسيّة التي يطمح إليها أيّ مواطن حصّل حدًّا أدنى من الحسّ الوطنيّ السليم. هي وحدة تنفي المواطنة على حساب قبائليّة بغيضة جرّبها أجدادنا وآباؤنا فلم تجرّ عليهم سوى المصائب والويلات.
كنّا لنغتبط لو كانت الدعوة إلى الوحدة بين المسيحيّين دعوة ذات منفعة عامّة للبلاد والعباد، لا من أجل صلاحيّات أو سلطات محصورة تناط بشخص واحد، ما ضرّ لو لم يكن مسيحيًّا، حين يقعد على الكرسي ليس لديه ما يصنعه سوى أن يؤدّي دورًا رسم له من قبل. فماذا ينتفع المسيحيّون، بالمعنى الإيمانيّ لا الطائفيّ للكلمة، من صلاحيّات الكرسي؟ هل سيتراحمون ويتكافلون اجتماعيًّا بشكل أوفى؟ هل سيحبّون بعضهم بعضًا أكثر؟ هل سيتقدّمون روحيًّا؟ هل سيزدادون قداسةً؟
ولكن أيضًا ماذا نفعت المسيحيّين، على الصعيد الوطنيّ، رئاستهم الأولى منذ قيام لبنان الكبير؟ حروب طائفيّة، حروب بين أهل البيت الواحد، تهجير، هجرة، نزيف أدمغة، اعتداءات إسرائيليّة، استباحة دائمة للأرض والجوّ، فساد، ديون عارمة… بكلمة، لا ننتهي من إحباط حتّى ندخل في آخر أسوأ من الأوّل.
كنّا لنغتبط لو كانت الدعوة دعوة إلى وحدة مصيريّة مع مسيحيّي الشرق، وبخاصّة مسيحيّي فلسطين الذي يكادون أن ينقرضوا، ومسيحيّي العراق الذين يكادون أن يتركوا ديارهم أطلالاً. الوحدة مع هؤلاء تعني تبنّيًا لقضاياهم، ولا سيّما أنّ الرئيس الأميركيّ أطلق على إسرائيل لقب “الدولة اليهوديّة”، ما يعني تشريع طرد الفلسطينيّين، مسلمين ومسيحيّين، نهائيًا من بلادهم، وعدم العودة إليها إطلاقًا، حتّى ولو بالأحلام.
عدم نجاح المواطنة في بلادنا على حساب ازدياد رصيد الانتماء الطائفيّ والدعوات المتكرّرة إلى وحدات طائفيّة قد أدّى إلى ما نشهده اليوم من واقع مرّ نحياه فرزًا حادًّا بين أبناء الوطن الواحد. أمّا المسؤوليّة عن هذا الوضع فلا تقع على عاتق المسيحيّين وحدهم، بل يشترك فيها المسلمون بالقدر عينه. وليست حال جماعة من الجماعتين بأفضل من حال الجماعة الأخرى. لذلك، ما نحتاج إليه ليس وحدة مسيحيّة ووحدة إسلاميّة تتقابلان وتتكاملان، بل وحدة وطنيّة عابرة للطوائف والمذاهب، لا تلغي التنوّع السياسيّ الضروريّ لازدهار مجتمعنا وتحصينه ضدّ الأخطار الخارجيّة والداخليّة على السواء.
جريدة “النهار” 2 كانون الأول 2007