لم تمرّ أحداث مخيّم نهر البارد من دون أن تثير في الساحة الإسلاميّة في لبنان عاصفة من الاستنكار والإدانة لمسبّبيها. فعلت الأصوات المندّدة بالحركات التي تتوسّل العنف والإرهاب طريقًا إلى فرض هيمنتها على المجتمع بكلّ تنوّعاته. في هذا السياق يجدر التنويه بـ”الوثيقة الإسلاميّة حول العنف والتطرّف وأحداث نهر البارد” التي أقرّها المشاركون في مؤتمر دعت إليه “الجماعة الإسلاميّة”، وضمّ حوالى مائة وسبعين شخصيّة علمائيّة، وممثلين عن قوى وجمعيّات وحركات إسلاميّة في لبنان.
تضع الوثيقة الضوابط التي لا يجوز للمسلم تحت طائلة مخالفته للإسلام في عقيدته وشرائعه أن يتخطّاها في مسألة اللجوء إلى العنف. فتحت عنوان “الإسلام والجهاد” تذكّر الوثيقة بأنّ “الجهاد بمعنى القتال، فهو استثناء في العلاقات الإنسانيّة التي يجب أن تقوم من جيث الأصل على السلام والدعوة والتعاون”، وتشير إلى أنّ الإسلام قد شرّعه لسببين: الاعتداء على الأوطان وإكراه المسلمين على الخروج من دينهم. من هنا تؤيّد الوثيقة المقاومة التي تنشط في كثير من بلاد المسلمين، وبخاصّة في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان، معتبرة إيّاها “جهادًا في سبيل الله ما دامت موجّهة للعدو الخارجيّ”.
ثمّ تتناول الوثيقة تحت عنوان “الحروب الداخليّة ليست جهادًا” ما لا يمكن أن يكون جهادًا بالمعنى الإسلاميّ الشرعيّ. فيؤكّد المؤتمرون على القول بأنّ “القتال بين أبناء المجتمع الواحد ليس جهادًا في سبيل الله، بل يدخل في باب الفتنة”. واللافت أنّ الوثيقة إذ تدين هذا الصنف من القتال بين أبناء المجتمع الواحد إنّما تقصد المسلمين والمسيحيّين على حدّ سواء: “يستوي في ذلك أن يقع (القتال) بين المسلمين، أو بينهم وبين إخوانهم المواطنين”. ولا ريب في أنّ هذا الكلام الذي يساوي بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمعات الإسلاميّة يزيل من أفئدة غير المسلمين الخوف من أيّ إرهاب قد يستعمله البعض تحت راية الإسلام من أجل اضطهادهم وطردهم من ديارهم.
ومع تأكيد الوثيقة على الالتزام بواجب النهي عن المنكر وفريضة الجهاد في سبيل الله ضمن الضوابط الشرعيّة، فإنّها ترفض “استخدام العنف لتحقيق أيّ مشروع سياسيّ في لبنان، سواء كان بشعارات إسلاميّة أو قوميّة أو وطنيّة”. فالمسلمون اللبنانيّون، بحسب الوثيقة، “انطلاقًا من انتمائهم إلى أمّتهم العربيّة والإسلاميّة يؤكّدون حرصهم على الوحدة الوطنيّة والتزامهم بمقتضيات السلم الأهليّ في وطنهم لبنان”، كما يؤكّدون على “العيش المشترك في ظلّ حماية الحرّيّات والمحافظة على حقوق الإنسان”.
الخطاب الذي تحمله هذه الوثيقة الإسلاميّة ليس غريبًا عمّا عهدناه في الإسلام والمسلمين من حرص على غير المسلمين في المجتمعات الإسلاميّة. ومع تغيّر الأزمان والأمكنة نسجل التقدّم الذي حقّقته الوثيقة في بعض المفاهيم التي كانت تسود الوثائق ذات الصلة بالعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين. فلا نقرأ على مدى الصفحات الستّة عشر تعابير “أهل الذمّة” و”الجزية” و”المعاهدة” وسواها من التعابير التي كانت تحكم العلاقات بين الجماعات الدينيّة في الدولة الإسلاميّة. بل تتبنّى الوثيقة عوضًا عنها تعابير “وطن”، “مواطن”، “وحدة وطنيّة”، “وفاق وطنيّ”، “شرعة حقوق الإنسان”، وهذه التعابير لا تجد جذورًا لها في التراث الإسلاميّ قد أضحت تسود العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد. وهذا لا يلغي ضرورة الاستمرار في السعي والاجتهاد من أجل تأصيل هذه المفاهيم في الخطاب الإسلاميّ واعتمادها في كلّ المجتمعات الإسلاميّة.
هي وثيقة إسلاميّة ذات أهمّيّة استثنائيّة في زمن زاد فيه التطرّف في كلّ الأديان والإيديولوجيّات الدينيّة وغير الدينيّة. وثيقة نرجو لها أن تسكن قلوب المسلمين كافّة كي يكونوا مثالاً في الانفتاح وقبول الآخر المختلف على قاعدة اللقاء الوطنيّ والإنسانيّ.
جريدة “النهار” 9 كانون الأول 2007