تغييب العقل يساهم في انحطاط الخطاب الدينيّ

الأب جورج مسوح Sunday December 16, 2007 219

يذكر النديم في “الفهرست” الأسباب التي من أجلها كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في هذه البلاد، ومنها أنّ الخليفة العبّاسّيّ المأمون “رأى في منامه كان رجلاً أبيض اللون، مشرّبًا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل، جالس على سريره. قال المأمون: وكأنّي بين يديه قد مُلئت له هيبةً. فقلتُ: مَن أنت؟ قال: أنا أرسطاليس. فسررت به وقلت: أيّها الحكيم اسئلك. قال: سل. قلتُ: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور. قلت: ثمّ ماذا؟ قال: ثمّ لا ثمّ”.

في خلافة المأمون (813-833) ازدهرت حركة الترجمة إلى العربيّة وبلغت ذروتها. فالمأمون، المتهيّب من زيارة أرسطو له في الحلم، بادر إلى الاتّصال بقياصرة الروم كي يأذنوا لرسله إليهم بجمع المخطوطات في علوم الطبّ والهندسة والعلوم الطبيعيّة. ثمّ انشأ “بيت الحكمة”، تلك الدار التي احتضنت المترجمين العاملين على نقل العلوم اليونانيّة إلى العربيّة. غير أنّ الأهمّ في مجمل هذه الحركة فكان دخول الفلسفة إلى الفكر الإسلاميّ واحتدام الجدل الكلاميّ بين المعتزلة والأشاعرة بصورة خاصّة، حيث اتّخذ المأمون جانب المعتزلة في ذلك الصراع.

يطرح حلم المأمون مسألة ما زالت على بساط البحث إلى اليوم، وهي مسألة التحسين والتقبيح أهما من شأن العقل أم من شأن الشرع. وما التشدّد الدينيّ في عالمنا الراهن سوى وجه من وجوه الصراع بين العقل البشريّ والشريعة الإلهيّة كأنّهما خطّان متوازيان لا يلتقيان. ولنا في التيّارات السلفيّة التي من أركانها القول بتقديم الشرع على العقل، وفي التيّارات التي تقصي أيّ دور للشريعة في العالم المعاصر، مثال صارخ عن استمرار هذا الصراع.

في الواقع، شهد تاريخ الفكر الإسلاميّ مجادلات واسعة بين علماء دين وفقهاء متمرّسين بالفلسفة تناولت هذا الموضوع بإسهاب. وكان على رأسهم ابن رشد، القاضي والفقيه، الذي حاول في كتابه “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتّصال” التوفيق والتقريب بين الشريعة والفلسفة. وسبقه إلى ذلك العديد من الفلاسفة المسلمين كمتكلّمي المعتزلة والكندي والفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل، وتبعه في ذلك بعض من مفكّري عصر النهضة العربيّ. غير أنّ ابن رشد الذي يطلق على أرسطو لقب “الفيلسوف الإلهيّ” أراد أن يدافع عن الفلسفة مؤكّدًا أنّها لا تناقض الدين، بل إنّها تدعمه وتشدّ أزره.

لا ريب أنّ تغييب العقل الذي ينسى مغيّبوه أنّ الله قد صنعه وخصّ به الإنسان دون سواه من مخلوقات الأرض الساعية على اليابسة وفي البحار والأجواء هو ما يساهم في انحطاط الخطاب الدينيّ إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ. فمَن يراقب بعض الفتاوى المنشورة في الصحف وفي الإنترنت تصفعه أسئلة المستفتين التي تدلّ على الجهل المستحكم بهم، ولكن تصعقه أكثر غالبيّة الفتاوى، كفتوى إرضاع الكبير، التي لا تساهم إلاّ في ترسيخ هذا الجهل وجعله عميمًا.

لقد بلغت الحضارة الإسلاميّة أوجها بعد حركة النقل التي بدأت بحلم المأمون، واستمرّت قرونًا بفضل تطوّر العلوم الفكريّة والنقاش الحرّ بين مختلف التيّارات الفلسفيّة. ثمّ دخلنا عصر الانحطاط بعد انتصار الكسل الفكريّ والابتعاد عن إعمال العقل في سبيل علم دينيّ يواكب العلوم الحديثة. وفي عصرنا الذي يشهد ازدهارًا للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والأنتروبولوجيّة والسيميائيّة وسواها من المساقات الفلسفيّة نجد أنّ العلوم الدينيّة تكتفي بذاتها ساكنة برجها العاجيّ. فهل من مأمون جديد يأتيه حكيم في الحلم يأمره بالانتفاع من العلوم الحديثة لتجديد الفكر الدينيّ؟

 

جريدة “النهار” 16 كانون الأول 2007

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share