“لقد مات طالبو نفس الصبيّ”. بهذه الألفاظ بشّر ملاك الربّ يوسف، خطّيب مريم والدة يسوع المسيح. الملاك يبشّر بموت هيرودس الملك الذي أمر بإهلاك كلّ صبيان بيت لحم من ابن سنتين فما دون، لعلّ المسيح يهلك في مَن سيهلك من هؤلاء الصبيان. الملاك يظهر في الحلم ليوسف ويطلب منه العودة بالصبيّ يسوع من أرض مصر إلى أرض فلسطين بعد أن مات مَن كان يريد قتله. الموت بشرى جميلة يحملها الملاك، ملاك البشارة، إلى يوسف.
نعم، كان خبر موت هيرودس خبرًا مفرحًا حمل البشرى للكثيرين ومنهم يوسف ومريم. ولسنا نخطئ إن فرحنا معهما واغتبطنا كلّ الغبطة. فالموت حقّ، كما تقول العامّة. ولا بدّ أن يأتي يوم يموت فيه المرء، فينتقل من هذه الفانية إلى الباقية. ولكنّ موت هيرودس لم يمنع صلب المسيح وقتله. هيرودس ليس حالاً فرديّة أقفلت عليه وحده من دون غيره. هيرودس ينبت ويزهر هيرودس آخر تلو هيرودس إلى أن ينقضي الزمان ويولّي.
هيرودس قاتل الأطفال ما زال حيًّا يرزق. لم يمت. من فجر التاريخ إلى اليوم كم هيرودس حكم وتجبّر وطار وارتفع ثمّ حطّ ونام تحت التراب. مع ذلك هو لم يمت. لبس لبوسًا مختلفة، وتزيّا بأزياء مختلفة، ونطق بلغات العالم أجمع. تلوّن بكلّ ألوان الأعراق والأجناس، فهو أبيض وأسود وأصفر وأحمر. قد يكون رجلاً في زمن، وامرأة في زمن آخر. هو يأخذ صورًا مختلفة من جيل إلى جيل، ولا تنقصه الهندمة في هذا العصر. وفي كلّ الأحوال هناك مَن يصفق ويهلّل له، ويمنحه الطاعة والولاء، ويبايعه أميرًا على نفسه وعلى عشيرته.
هيرودس يحتلّ بيت لحم فلسطين. يطرد أولادها. يسوّرها بجدار العار. يفرّق الأخ عن أخيه، والابن عن أبيه. يحرم أبناءها من الصلاة في كنيستها، كنيسة المهد، مهد المسيح. يقتلع شجر الزيتون. يمنع أصحاب الرزق من الوصول إلى بساتينهم. ونحن نسأل، والسؤال حقّ: “متى سنُبشَّر بأنّ طالبي نفس الصبيّ قد ماتوا؟” كي يعود المطرود والمهجّر، ويلتقي الأخ بأخيه، والزارع بحقله، ويصلّي مَن يشاء في كنيسته العابقة بالبخّور الذكيّ الرائحة، والتي منها يرتفع الدعاء.
ويسعنا النسج على المنوال ذاته. فالصبيّ المطلوب قتله من هيرودس ليست له هويّة واحدة وحسب. هو ليس الفلسطينيّ فقط. هو اللبنانيّ المفتون بانتمائه الطائفيّ والمذهبيّ، هذا الانتماء الذي يسمح بمجازر وتهجير ومآس لا تعدّ ولا تحصى من حين إلى آخر يرتكبها هيرودس هذه الطائفة أو تلك. هو العراقيّ أيضًا الذي استبدل هيرودس من العالم الحرّ بهيرودس محلّيّ لم يترك وراءه شيئًا يجعلنا نأسف عليه. هو كلّ إنسان يموت رخيصًا في سوق نخاسة العالم المعاصر الحامل عن زور شعارات كبرى لا تمتّ إلى أهدافه بصلة.
بيت لحم الثكلى عمّت العالم. بيت لحم، التي ذُبح أطفالها، ليست مقتصرة على بيت لحم فلسطين. وما المقصود بذبح الأطفال الذبح الفعليّ وحسب، بل كلّ اعتداء يحرم الأطفال من متعة ما. أليس الجوع والبرد الذي يعاني منه الأطفال الفقراء هو نوع من أنواع قتلهم؟ أليس الأطفال المهدّدون بالموت جرّاء الأمراض المستعصية، ولا سيّما السيدا، والمحرومون من الدواء بسبب احتكارات الشركات الكبرى هو نوع من أنواع القتل؟ أليس خروج الأطفال إلى سوق العمل مبكرًا نوع من أنواع القتل؟
متى سيموت طالبو نفس الصبيّ؟ ليس مجرّد سؤال بل صلاة حارّة نرفعها، مع علمنا أنّ هيرودس لن يموت. مع ذلك، حقّنا أن نبقى على الرجاء. حقّنا أن نسرّ ونفرح ونغتبط حين نسمع أنّ هيرودس واحدًا قد مات، فكم بالأحرى كلّهم.
جريدة “النهار” 6 كانون الثاني 2008