تحالف السَّاسة ورجال الدين: فتِّش عن الطائفة لا عن الله…

الأب جورج مسوح Sunday March 2, 2008 200

لبنان من بين دول العالم قاطبةً هو البلد الوحيد، ربّما، الذي يضاهي فيه ظهور رجال الدين في نشرات الأخبار ظهور السياسيّين. وهذا الظهور ليس دائمًا داعيًا للاطمئنان عند المشاهدين الذين كثيرًا ما يربطون بينه وبين احتدام الأزمات الوطنيّة والطائفيّة. ولا نقول إنّ رجال الدين هم سبب الأزمات، ولكن نؤكّد على القول بأنّ مشاركتهم في الحياة السياسيّة مؤشّر هامّ لدى المراقب إلى أنّ الأحوال سيّئة، بحيث تستدعي تدخّلهم في دهاليز السياسة اليوميّة واتّخاذ المواقف من كلّ شأن عامّ.

ورجال السياسة الدهاة هم أكثر مَن يستفيد من رجال الدين وتصريحاتهم. وليس من سياسيّ إلاّ وهو في حاجة إلى حلف مع مرجع دينيّ يستمدّ منه الفتوى المناسبة للظرف الراهن، كي يوظّفها في صراعاته السياسيّة مع الخصوم. حلف القيصر والبابا، والسلطان والفقيه، ضروريّ لاستنهاض الجموع والحشود. والسياسيّ، وإن ادّعى العلمانيّة والإيمان بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان، هو في حاجة، ببلد كلبنان، إلى عمامة أو قلنسوة كي يأخذ منها شرعيّة تمثيله الطائفة أو المذهب.

تحالف السلطة الدينيّة والسلطة الزمنيّة ليس جديدًا وليس ابتكارًا لبنانيًّا. الدولة الرومانيّة، ثمّ البيزنطيّة، فالإسلاميّة بكل تسمياتها قامت على الانتفاع المتبادل بين السلطتين. وكان الخضوع في غالب الأحيان من جانب السلطة الدينيّة أمام السلطة الزمنيّة، إلاّ في حقب تاريخيّة معدودة، حيث رفض بعض أهل الأديان هذا الخضوع، فتمّ تجريدهم من مواقعهم وعزلهم ونفيهم واستشهادهم في بعض الأحيان. ولنا في سيرة القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، الأنطاكيّ المنشأ، نموذج لهذا الصنف من الذين لم تغرهم المناصب ولا المال. فبعد أن صار بطريركًا على القسطنطينيّة، وما أدراك ما القسطنطينيّة، دفع حياته ثمنًا لعدم قبوله الانصياع لرغبات الإمبراطورة وزوجها.

واقع الحال في لبنان يشير اليوم إلى تحالف زمنيّ دينيّ يتجاوز مجال الدولة إلى الطوائف. فلكلّ طائفة زعيمها السياسيّ وفقيهها الدينيّ الجاهز دائمًا لتأييده في كلّ ما يقوله ويعمله. ولئن كانت الأمور في المذاهب الإسلاميّة الثلاثة أكثر نفورًا ووضوحًا للعيان من دون لبس، فالمسيحيّون لا ينفكّون هم أيضًا عن التذكير بضرورة توحيد المرجعيّات السياسيّة واصطفافها تحت العباءة الطائفيّة الضامنة لخلاصهم الدنيويّ ولحفاظهم على مكاسبهم السياسيّة. الجميع يتوقون إلى الكتلة الطائفيّة المتراصّة التي لا يعتريها أيّ ضعف أو وهن، يتوقون إلى تحالف الإكليروس والسياسيّين كونه النموذج الأمثل.

استغلال رجال السياسة للدين ورجاله يبلغ أوجه في زمان الفتنة. وينسى رجال الدين المتحالفون مع ماسك أمور الطائفة السياسيّ الحكمة المنسوبة إلى الإمام عليّ بن أبي طالب: “كن في الفتنة كابن اللبون (ولد الناقة): لا ظهر فيُركب، ولا ضرع فيُحلب”. ليس أفضل من التلطّي وراء عباءة دينيّة، والزعم بأنّ الطائفة في خطر، والمناداة بالويل والثبور وعظائم الأمور من أجل حشد الطائفة وراء قائدها المفدّى. وهذا لا يمكن أن يتمّ من دون دعم “إلهيّ” يلجأ إليه العلمانيّ قبل الدينيّ، والمدنيّ قبل الدنيويّ، واليساريّ قبل الرجعيّ…

لقد انحرف الخطاب الدينيّ في لبنان عن هدفه الأساس. كثرة ظهور رجال الدين على الشاشات السياسيّة لا تعني البتّة تذكيرًا بكلام الله والأنبياء والمرسلين، ولا تصبّ في خانة الهداية إلى الحقّ، دعوةً أو تبشيرًا. الله هو الغائب الأكبر حين يظهر الدينيّ متكلّمًا بالسياسة ومتدخّلاً بتفاصيلها. عاد الناس لا يصدّقون الكثير من البيانات الدينيّة المشتركة، والصور التذكاريّة التي تجمع مزيجًا جميلاً من ألوان العمائم والقلنسوات، والقمم الروحيّة الموسميّة. إن لم يستقلّ الدينيّ عن الطائفيّ والسياسيّ لن تستقيم الأمور. إن لم يقلّ ظهور رجال الدين في النشرات الإخباريّة لن نقول إنّ الأمور تتّجه نحو الأفضل.

 

جريدة “النهار” 2 آذار 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share