لمن وصفه بـ”فم التنك” يوحنّا الذهبيّ الفم “يساريّ” قبل أشباه اليساريّين

الأب جورج مسّوح Sunday April 13, 2008 165

يسخر الأستاذ الجامعيّ من كلّ مَن يعاكس ما يعتبره هو الرأي الصحيح. ينصّب نفسه قاضيًا على مفكّري البلد وصحافيّيه وسياسيّيه. هذا شأنه، ولا يعنينا أبدًا هذه الجدالات السفسطائيّة والهذيانيّة بين “المثقّفين” اللبنانيّين الذين، من نكد الدنيا، يُطلق على بعضهم هذا التعبير على سبيل المجاز لا الواقع. من قلّة المثقّفين تورّم البلد بأشباه مثقّفين، نجّانا الله من هذا البلاء.

يتعرّض هذا الأستاذ الجامعيّ في صحيفة لبنانيّة بالهجاء لقامة كبرى من رجالات الكنيسة هو القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (توفّي عام 407)، أو فم الذهب بصيغة أخرى، فيسمّيه “يوحنّا فم التنك”. الأستاذ “اليساريّ” الدائم التوتّر، وفي سياق الردح المتبادل بينه وبين أحد خصومه في صحيفة أخرى، يسخر من يساريّ حقيقيّ، قبل ماركس وورثته الأعداء بحوالى خمسة عشر قرنًا، هو يوحنّا الذهبيّ الفم. كان فم يوحنّا ذهبيًّا عن حقّ، لا خشبيًّا كلسان مَن هاجمه. كان إمام الكلمة، على الرغم ممّن يقول العكس، وقامت شهرته على مواهبه الخطابيّة التي جعلت أستاذه ليبانوس الخطيب الشهير يقول: “لولا عقيدة يوحنّا المسيحيّة لكان خير مَن يخلفني على منابر الخطابة في أنطاكية”.

يوحنّا الذهبيّ الفم السوريّ الأنطاكيّ اصطدم بعد أن صار بطريركًا على القسطنطينيّة، عاصمة الإمبراطوريّة، بالسلطة القائمة. فصلابة يوحنّا واستقامته منعتاه من المراوغة وممالأة هوى الإمبراطور في ما يريد وفي ما يميل إليه. وكان جريئًا لا يخاف قول الحقّ، إذ قال ذات مرّة في إحدى عظاته منتقدًا تصرّفات الإمبراطورة إفذوكسيّة، وكانت المناسبة تذكار قطع رأس القدّيس يوحنّا المعمدان: “ها إنّ هيروديّا تعود إلى الهياج والسخط، ها إنّها تضطرم غيظًا، وترقص، وتطلب رأس يوحنّا على طبق”. فنفي على إثر ذلك إلى أرمينيا إلى أن توفّاه الله. كان يوحنّا، في موقفه هذا، وبمقاييس هذا الزمان، مثقّفًا ينتقد السلطة أكثر ممّن هم اليوم في صفوف متقابلة يتقاذفون الشتائم باسم الثقافة.

والمعروف عن الذهبيّ الفم أنّه عند اقتضاء الحاجة كان يبيع أملاك الكنيسة لمساعدة المعوزين والأرامل والأيتام والمرضى وعابري السبيل والغرباء. كان ذلك، بالنسبة إليه، تنفيذًا لكلمة الإنجيل الذي كان يعتبره منهجًا حياتيًّا لا مجرّد مثاليّات غير قابلة للتحقيق. كان الإنجيل مرشده إلى محبّة الفقراء، فعاش فقيرًا، وغادر الدنيا فقيرًا. لم يكن الذهبيّ الفم ينتمي إلى يسار كافياريّ، ولم يكن من هواة الأنظمة الستالينيّة، ولم يكن ينتفع من العمل والتعليم في بلاد الرأسماليّة المتوحّشة… كان المسيح، لا سواه، الأسوة الحسنة التي يقتدي بها في نهج حياته.

ولا ينسى يوحنّا أن يذكّر مستمعيه دائمًا بما أسماه “سرّ الأخ” الذي يقوم على خدمة الإنسان. فالاتّحاد بالله لا يتمّ فقط بالعبادات وممارسة الشعائر على أنواعها، بل بالاهتمام بالأخ المستضعَف، والمقصود بالأخ كلّ إنسان بصرف النظر عن انتمائه الدينيّ أو العرقيّ. وفي هذا السياق يقول: “مهما صمتَ، ومهما اضّجعتَ على الحضيض، ومهما أكلتَ الرماد، وذرفتَ الدموع، فإنّك لا تكون قد قمتَ بشيء عظيم إذا لم تكن مفيدًا للغير”. وفي انتقاده لتحالف الدولة والمؤسّسة الكنسيّة بخاصّة، وسلوك المسيحيّين بعامّة، لا يتوانى عن القول: “لقد أقامنا المسيح على هذه الأرض لكي ننشر النور، لكي نكون الخميرة. الأعمال تقوم مقام الكلام أفضل قيام. لو سلكنا سلوكًا مسيحيًّا حقيقيًّا لزالت الوثنيّة”.

كان يوحنّا الذهبيّ الفم يحيا ما يقوله وينفّذه على نفسه. لم يرضَ الرضوخ للحاكم، ولم يستغلّ حقوق الفقراء استغلال بعض يسار هذه الأيّام. كان حرًّا من كلّ إيديولوجيّة، ولم يكن منظّرًا يستكبر على الواقع المحيط به. كان نقيًّا من دنس هذه الدنيا، لذلك زهد بمنصبه، وكفر بالمال، وأحبّ الفقراء. ويأتيك اليوم مَن يقول، بخفة لا تطاق، إنّ يوحنّا كان تنكيّ الفم. فطوبى لمَن يكون يوحنّا ملهمه فإنّ قلبه وعقله، بل قل كلّه، لا فمه وحسب، يكون ذهبًا خالصًا.

 

جريدة “النهار” 13 نيسان 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share