مَن شاء الفصح عبر عن عبادة ذاته

الأب جورج مسّوح Sunday April 27, 2008 192

في كلّ موسم مبارك نسمع الوعّاظ الكنسيّين، مرورًا بشرائح المجتمع اللبنانيّ كلّها، وبخاصّة المذيعات والمذيعين حتّى كتّاب زوايا القراء في الصحف، يكررون العبارة ذاتها من غير ملل: عسى أن يكون هذا العيد مناسبةً لميلاد لبنان الجديد، إن كانت المناسبة عيد الميلاد؛ عسى أن يكون دور لبنان قد حان لينزل عن الصليب ويقوم من أزماته المتوالية، إن كانت المناسبة الجمعة العظيمة وأحد الفصح…

ليس خطأ أن يتذكّر المؤمنون في أعيادهم الكبيرة مصائبهم ومآسيهم، وأن يحملوا بلادهم وناس بلادهم في صلواتهم وتضرّعاتهم، وأن يقارنوا بين معاني العيد وواقعهم المرير، إنْ كان ذلك مرتكزًا على الرجاء بأن يطلّ الربّ عليهم ويحميهم من كلّ سوء. لكنّ الصلاة إنْ لم تقترن بالعمل قد لا تجدي نفعًا، وتذهب هباءً كالغبار الذي تذرّيه الريح، وتتكسّر على صخرة الواقع الذي لا يرحم ولا يلين.

مناسبة القول هذا، اليوم، هي عيد الفصح المجيد لدى الأرثوذكس. وفي هذا العيد يحتفل المسيحيّون بقيامة المسيح من بين الأموات، راجين أن يقيمهم معه. وهذا الرجاء تتبنّاه الكنيسة عبر أيقونة القيامة حيث يظهر فيها المسيح دائسًا أبواب الجحيم ومنهضًا آدم وحواء، رمزَي البشريّة كلّها. أمّا الفصح، لغةً، فهو العبور، عبور من الموت إلى الحياة، عبور من الخطيئة والفساد إلى الحياة الجديدة التي لا سلطان للموت عليها، عبور من أرض العبوديّة إلى أرض الحرّيّة…

لا يمكن لبنان أن ينهض من احتضاره إنْ لم ينهض اللبنانيّون. فالناس هي التي تصنع الأوطان، وليست الأوطان التي تصنع البشر، بل هي التي تكون على صورة أهلها. والسائد حين التحدّث عن علاقة الوطن بالمواطنين هو تشبيهها دائمًا بعلاقة الوطن-الأمّ بالمواطنين-أبناء الوطن. لكنّ المفارقة تكمن في أنّ الأوطان، على العكس من علاقة الأمّ بابنها، يلدها أبناؤها. الأبناء يلدون أمّهم، والأمّ هي التي تولَد على صورة أولادها، وتتغيّر مع كلّ تغيّر يطرأ عليهم. هكذا تكون الأوطان على صورة أبنائها. فإن فسد الأبناء، فكيف تكون حال الأمّ؟

وإنْ أردنا التوغّل في أعماق هذه الصورة العلائقيّة بين الوطن وأبنائه-آبائه لما وجدنا ما يماثلها أفضل من صورة السيّدة مريم وابنها-ربّها يسوع المسيح. مريم ولدته هو الكائن منذ الأزل، كان قبلها وولدته، أعطته جسدًا… كانت مريم بتولاً، عفيفة، طاهرة، وبقيت كذلك طيلة أيّام حياتها. اختارها الله لتلد ابنه الوحيد لأنّها رضيت أن تُخضع، بحرّيّتها البشريّة الناقصة، مشيئتها لمشيئته، فقالت: “ها أنا أمَة الربّ، فليكن لي بحسب قولك”.

ميلاد الوطن وفصحه طريقهما توبة تنظّف اللبنانيّين من أدران الخطيئة الكبرى التي تغريهم، وهي الكبرياء عدوّة المحبّة. ومَن يريد أن يولد لبنان ثانيةً لا يكفيه أن يتذكّر أسطورة طائر الفينيق الذي يعود إلى الحياة من رماده، والموت قدره الدائم يعود إليه في دائرة مقفلة لا خروج منها، بل يكفيه أن يعفّ عن شهوات هذه الدنيا، وأن يزهد على مثال مريم التي عبرت، وبها عبرت البشريّة كلّها، من زمن إلى زمن. على اللبنانيّين أن يكون كلّ منهم مريم أخرى، تلك التي أحصنت نفسها عن مغريات هذا العالم، كي تكون للبلد قيامة تدوم ما داموا أعفّاء.

الحياة عبور دائم من حالة إلى حالة. والإنسان إن لم يتعلّم كيف يكون عابرًا يهلك، لأنّه يظنّ نفسه أبديًّا حيث هو مستقرّ، بينما الزمن يفتك به ساعةً فساعة، يبتلعه كما يبتلع المحيط نقطة من الماء. الفصح اليوم مناسبة، وكلّ عيد مناسبة لعلّ المناسبة تنفع مَن يريد أن ينتفع، كي يعبر اللبنانيّون من عبادة ذواتهم إلى احترام بعضهم بعضًا. إن شاء اللبنانيّون أن يحيوا إلى الأبد عليهم أن يسلكوا كأنّهم عابرون، مجرّد عابرين.

 

جريدة “النهار” 27 نيسان 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share