نحو تفعيل ترجمتنا الاجتماعيّة لفكرنا الإيمانيّ – نيسان 2007

mjoa Saturday June 28, 2008 340

 كلّ خدمة، في تراثنا المسيحيّ، تهدف إلى رفع الإنسان وبنائه بالله، أساسها الواقعيّ حقيقة أنّ “الله أرسل ابنه مولودًا لامرأة، مولودًا في حكم الشريعة، ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبنّي”. فالربّ، الذي أتى إلينا ووحّد نفسه بنا، دعانا جميعًا إلى محبّة مَنْ سمّاهم “إخوته الصغار”، أي الفقراء والضعفاء والحيارى والمهمّشين، واحتضان همومهم وخدمتهم ورفعهم إلى أعلى.

.

 منذ انطلاقتها، وعت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة حقّ هذه الدعوة الخلاصيّة، فحثّت ذاتها ومَنْ لها وإليها على تجسيد إيمانهم بيسوع الناصريّ المصلوب حبًّا عبر التزام قضايا الإنسان والسعي إلى رفع الظلم عنه بعزيمة إيمانيّة ثابتة وجرأة رسوليّة متّقدة. ولقد برز تعاطي الحركة، مع هذا الوجه الشهاديّ، عبر ما أولته تربيتُها من أهمّيّة لانخراط أعضائها في العمل الاجتماعيّ بوجوهه كافّة، وتاليًا عبر دعواتها المتكرّرة إلى تعميد الشأن العامّ بحضور إيمانيّ فاعل. فأتى أبلغ هذه الدعوات سيّما في كتابات سيادة المطران جورج (خضر) والدكتور كوستي بندلي، وفي وثيقة رسمت فيها التوجّهات العامّة التي يجدر بالعضو الحركيّ حفظها والسلوك بموجبها في خدمته قضايا الإنسان في العالم، أي وثيقة “في التزام شؤون الأرض”.
 

ما من شكّ في أنّ ثمّة أسبابًا عدّة قد حالت دون أن تتفاعل الشريحة الحركيّة، كما يجب، مع مضامين هذه الوثيقة التي أقررناها منذ ما يزيد على عقود ثلاثة. وإن كان تحديد هذه الأسباب بدقّة يقتضي بحثًا طويلاً وعميقًا، وهو أمر يصعب علينا إتمامه هنا، فإنّ ما خطّه الأخ كوستي – ونشرناه على صفحتنا الإلكترونيّة – حول نشأة الفكر الاجتماعيّ في الحركة وظروف إصدار الوثيقة، يلفتنا إلى الكثير منها. إلى هذا، لا بدّ من تخصيص ذكر الحرب اللبنانيّة ووطأتها على العمل الحركيّ وحذر الحركيّين الشديد، في أوانها، من أيّ تعاطٍ بالشأن العامّ.

 

 على أيّ حال، وأيًّا تكن الأسباب، فالثابت أنّ منطقتنا قد مرّت، أثناء هذه الفترة المستمرّ لهيبها، بأحداث مصيريّـة كُبرى، كان من أشرس وجوهها استشراء مظاهر الاحتلال وأحوال الظلم وسفك الدماء، ولا سيّما في فلسطين والعراق، فضلاً عن الحرب العدائيّة الشرسة التي شنّتها إسرائيل على لبنان في شهر تمّوز المنصرم. ولرّبما أخطر ما شهدناه، وما زلنا نشهده، هو ما رافق هذه الأحداث من تمجيد سافر للعنف وانهيار حادّ في القيم وما تخلّفه من استفحال للبؤس ولعدد الضحايا ولحجم التدميـر. وعلى جسامة هذا كلّه، فقد بقي وسطنا الحركيّ، بتفاوت ينقص هنا ويزيد هناك، يتفاعل مع ما جرى بهامشيّة وخجل مُرهقَيْن، ما عكس هوّة مخيفة بين ما ندعو اليه، عبر مئات الصفحات التي سطّرت الأبعاد الاجتماعيّة لفكرنا الإيمانيّ، وبين ما نظهره على أرض الواقع.

 

   لقد أعادت هذه الأحداث تذكيرنا بأن ثمة مواقف أساسية لا بدّ من أن  نتخّذها أمانةً لايماننا المستقيم. وتبقى، في هذا المجال، مناهضة أي شكل من أشكال العنصرية واجباً أساسياً وموضوع نضال مستمرّ  لأن العنصرية تتنافى مع الرؤية المسيحية للانسان. إذ بموجب هذه الرؤية الناس متساوون وان اختلفوا في الجنس واللون والعرق والدين. من هنا كانت الصهيونية، وهي العنصرية بامتياز، أمراً يواجهه الايمان الصحيح ويلتزم محاربته ليس فقط لضرورة سياسية بل خصوصاً للضرورة العقائدية. كما لفتتنا، مجدّداً، إلى أنّ تغرّبنا الملحوظ عن الاهتمام الجدّيّ بالشأن العامّ إنّما يعطّل علينا أن نساهم في “رفع الدنيا إلى الربّ” في زمن تتعاظم فيه الحاجة إلى هذه المساهمة. وذلك بأنّ أكثر ما يحتاج إليه عالمنا، اليوم بالذات، هو تلك المساهمات المبرورة التي تكتسب خصوصيّتها من مقاربتها شؤون الدنيا بنور الربّ. فالأوضاع الساخنة، التي يرافقها تنامي العنف والخطر وتحوّل مجتمعاتنا إلى مساحات طائفيّة مجزّأة، وما إليها من تداعيات يفرزها هذا الواقع المرّ، وأوّلها هجرة الشباب التي تستنزفنا والكنيسة والمدى الأنطاكيّ، أمور تلفتنا كلّها إلى واجب التزامنا، كشباب مؤمن، المواطنة الصحيحة والتربية على مفاهيمها المرتكزة على السعي الحثيث الآيل إلى جعل الوطن واحة حوار وتفاعل ومشاركة إنسانيّة تسودها روح العدالة والحقّ والانفتاح ونبذ التعصّب الطائفيّ والعنف. هذا على رجاء أن نشخص، في التزامنا هذا، الى التحلّي بأخلاق السيّد متذكّرين أن يسوع، بتجسّده، يسكن في كلّ انسان ويدعونا الى ملاقاته فيه، لنكون اداة خدمة مصالحة بين الناس.

 غير أنّ دخولنا في هذه المساهمة من جديد يفرض علينا أن نبيّن اقتناعًا حقيقيًّا بأن أولى واجباتنا أن نعمل، معًا، على معالجة ثغرة هامّة في تربيتنا، وهي هذا التجاهل الملحوظ لهذا البُعد الهامّ من أبعاد إيماننا المسيحيّ. فلولا هذا التجاهل، الذي تعوّدناه منذ عقود، لما سهل على الكثير من شبابنا الغرق في تقاليد “إيمانيّة” بالية والتأثّر بأطروحات طوباويّة ومفاهيم طُهريّة تتناقض، بترفّعها عن هموم عالمنا وبمظاهرها الفرديّة المنغلقة، مع رؤيتنا إلى كنيسة المسيح الممدودة في الكون. فللكنيسة بعدها الكونيّ. ومن وظيفتها الكهنوتية رفع هذا الكون الى العرش الالهي بتقديسه. وهذا التقديس لا يُحصر بالصلاة من أجل الكون ورشّه بالمقدّسات، ماءً أو زيتاً، فقط بل تقع مسؤوليته على عاتق المؤمنين قاطبةً على اختلاف أعمالهم ومواهبهم. “أنتم كهنوت ملوكي”، أي من مسؤوليتكم الكهنوتية تقديس الكون بالعمل الذي تقومون به. 

   لذلك، وسعيًا إلى التزامنا هموم العالم التزامًا فاعلاً معمّدًا بنور إيماننا وفكر كنيستنا الحيّ، نورد بعض توجّهات وخطوات نراها توافق الأسس التي قامت عليها وثيقة “في التزام شؤون الأرض”. هذا، إلى جانب إصرارنا الثابت على أنّ التزامنا إيّاها يجب أن ينطلق من التصاقنا الدائم بالكلمة وممارستنا الصلاة والصوم، ليبقى حبّ يسوع فينا حيًّا، ويقيمنا هو تلاميذ له في العالم الذي أحبّه حتّى الموت، موت الصليب.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share