وثيقة “الفريق العربيّ للحوار” عندما يكون التأكيد على البديهيّات ضروريًّا

الأب جورج مسّوح Sunday July 20, 2008 177

لا تهمّ الفريق العربيّ للحوار الإسلاميّ المسيحيّ المسائل النظريّة أو الكلاميّة أو الفلسفيّة أو اللاهوتيّة المجرّدة بقدر ما يهمّه الخوض في القضايا الساخنة التي لها علاقة مباشرة بالعلاقات بين المسلمين والمسيحيّين، وبما يمكن أن يشكّل عائقًا أمام تحسين هذه العلاقات في العصر الراهن. في هذا الإطار نضع الوثيقة الجديدة “الاحترام المتبادل بين أهل الأديان” التي أعلنها الفريق الأسبوع الفائت. وهي الوثيقة الثانية للفريق بعد وثيقة “الحوار والعيش الواحد، نحو ميثاق عربيّ إسلاميّ-مسيحيّ”.

تأتي وثيقة الاحترام المتبادل في أوانها. فالنظرات المتبادلة بين أهل الأديان يسودها بعامّة عدم الاحترام وغلبة الصور المنمّطة المحكومة بتاريخ حافل من الحروب الدينيّة أو من الرغبة الجامحة بإقصاء الآخر المختلف. وليس يمكن فهم الأزمات المتتالية التي عصفت بالعلاقات بين المؤمنين في معزل عن تراكمات الأحكام المسبّقة التي أنتجتها الذاكرات الجماعيّة للأديان والمذاهب والطوائف بعضها عن البعض الآخر. وقد ساهمت بعض الآيات أو المقولات الدينيّة في تبرير استعلاء الجماعات الدينيّة واستكبارها على الجماعات الأخرى، وذلك بعد إضفاء قيمة مطلقة عليها واعتبارها حصريّة، كعبارتَي “شعب الله المختار” أو “كنتم خير أمّة أخرجت للناس”.

تواجه وثيقة الاحترام المتبادل المتضمّنة اثني عشر بندًا واقعًا مريرًا يحكم العلاقات بين المسلمين والمسيحيّين اليوم، وتحاول في الآن عينه وضع قواعد للتعامل بين المؤمنين في أوقات الشدّة وأزمنة الفتن كي لا تستفحل المشاكل وتتضخّم التوتّرات فتؤدّي إلى حروب لا تبقي ولا تذر. والتوتّرات هذه قد تنشأ من خارج السياق الدينيّ كما في قضيّة الرسوم الكاريكاتوريّة، وقد تنشأ بسبب تصريح غير مستقيم من رأس الهرم الدينيّ لهذه الجماعة أو تلك، لكن سرعان ما تتحوّل هذه التوتّرات في كلا الحالتين إلى أزمات كبرى تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور.

القاعدة الأساس التي تبني عليه الوثيقة التزاماتها يبيّنها البند الأوّل الذي يعرّف الاحترام المتبادل بكونه “نتيجة ضروريّة من نتائج الاعتراف بالاختلاف والغيريّة”، ذلك أنّ “لكلّ أهل دين خصوصيّاتهم الدينيّة. ولكلّ فرقة، أو مذهب، داخل الدين الواحد خصوصيّاته الفكريّة”. وتذكّر الوثيقة بأنّ “الأصل أن يكون تصرّف أهل الأديان جميعًا مراعيًا هذه الخصوصيّات، حريصًا على حفظ حرمة أصحابها، كافلاً لهم حقّهم في التعبير المشروع عنها”. ولا يقلّ البند الخامس عن البند الأوّل أهمّيّة في تعريفه الاحترام المتبادل بالقول: “إيمان أهل كلّ دين، أو مذهب، بصحّة عقيدتهم وحقيقتها يجب ألاّ يورّث شعورًا بالأفضلية، ولا بالتميّز، ولا يؤثّر سلبًا على العلاقات الإنسانيّة بين الناس، وإلاّ تحوّلت من استمساك محمود من كلّ ذي دين بدينه إلى تعصّب ممقوت يغري السفهاء من كلّ جماعة بمَن ليس منها”. وذلك يعني أنّ الاحترام إنّما يقوم على أساسين هما المعرفة الصحيحة عن الآخر والتواضع الفكريّ والحياتيّ.

ثمّ تتفرّع عن هذا التحديد البنود الأخرى التي تشدّد على عدم جواز الإساءة إلى الإنسان بسبب عقيدته ولا بسبب دينه، وعلى المواطنة وما ينتج عنها من مساواة بين المواطنين كافّة في الحقوق والواجبات، وعلى الابتعاد عن التعصّب الذي هو “وقود الفتن”، وعلى ضرورة الاعتذار وتصحيح الخطأ الواقع بحقّ إحدى الجماعات وعدم البحث عن تبرير الخطأ أو تأويله، وعلى كون حرّيّة اختيار الدين “حرّيّة فرديّة”، وعلى كون الهويّة الوطنيّة توحّد المواطنين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وعقائدهم.

تثير الوثيقة العديد من النقاط التي تبدو للوهلة الأولى كأنّها بديهيّات، وبخاصّة أنّنا نحيا في القرن الحادي والعشرين بعد قرن كان حافلاً بالحوارات واللقاءات العالميّة بين الأديان. غير أنّ الوثيقة بإعادة تأكيد هذه البديهيّات إنّما تجعلنا ندرك أنّ العمل الجدّيّ ما زال في بداياته وأن الطريق طويلة للوصول إلى احترام حقيقيّ وأصيل بين أهل الأديان كافّة، ولكن أيضًا بين كلّ البشر متديّنين كانوا أم غير متديّنين.

 

جريدة “النهار” 20 تموز 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share