هل “الحياة الروحية” قطاع يضاف إلى سائر قطاعات الحياة؟

mjoa Sunday August 31, 2008 300

أولاً :تصور “الحياة الروحية” على أنها قطاع خاص من قطاعات الحياة

هناك فكرة شائعة تحصر ما يسمى “بالحياة الروحية” في أعمال تقوية معيّنة كالصلاة والصوم وقراءة الكتاب المقدس وتقبّل الأسرار الكنسية والاشتراك في القداس وممارسة الخلوات الروحية وما شابه ذلك. وبعبارة أخرى، فإن “الحياة الروحية”، بموجب هذا التصور، تنحصر في النشاطات الصلاتية والتأملية وما يرافقها من ممارسات تقشفية، في حين أن كل نشاط ما عدا ذلك، سواءً أكان من أعمال الحياة العادية (كالأكل والشرب وكسب المعيشة وتحصيل المعرفة وممارسة كافة العلاقات العائلية والإنسانية ..)، أو حتى إذا كان من الأعمال التي تتسم بطابع ديني واضح ولكنها ليست من النمط التقوي الصرف (كاكتساب الثقافة الدينية أو نقلها للغير، أو ممارسة الأعمال التبشيرية أو الرعائية أو الاجتماعية أو التربوية …)، في حين، قلتُ، أن كل ذلك لا يمكن اعتباره حقيقة من باب “الحياة الروحية”، بل هو مجرد تهيئة أو نتيجة لها أو فرصة لتنفيذ موجباتـها. والموقف المبطن الكامن وراء مثل هذا الاعتقاد، هو، على ما يبدو، التصور بأن الاتصال بالله يتمّ حصراً عن طريق الممارسات الصلاتية والتأملية والزهدية، في حين أن كل ما تبقّى من ممارسات، على أهميته، لا يتعدّى كونه مجرد ميدان للتمهيد لهذا الاتصال أو لتنفيذ متطلباته.

.

ثانيا” :هذه الثنائية مرفوضة


ولكن هذا الاعتقاد والموقف يصدران عن ثنائية تبدو لنا مرفوضة قطعاً لأسباب وجيهة نابعة من طبيعة الإيمان المسيحي:

1 – لأنها تجزئ الإنسان دون مبرّر.
وكأن الإنسان، في منظورها، منقسم إلى ميدانين مستقلين: ميدان الروح، الذي يتم فيه، وفيه وحده، الاتصال بالله، وميدان المعيشة، الذي يشمل حياة الإنسان الجسدية والفكرية والعاطفية والاجتماعية التي يفترض أن لا علاقة لها بالله إلاّ من حيث هي تمهيد “للحياة الروحية” بالمعنى الحصري الذي ذكرناه، أو تطبيق لها.

والواقع أن الإنسان كائن موحّد، تتداخل سائر نواحي حياته وتتشابك فيما بينها، بحيث أن الصلاة تشيع في الحياة كلها مناخاً صلاتياً، تلون الوجود كله بلونها. وقد كتبت رهبنة دير الحرف بهذا الصدد:
“الصلاة قبل كل شيء موقف داخليّ للنفس التي تعي ذاتها أمام الله (…) يكفي لكي نصلّي أن نعرض نفسنا لله كما هي في أي حال كانت عليه (…) وهكذا يتأمن ذكر الله الدائم في سائر الأوضاع والحالات…”(1).

 

كذلك كتب المفكر الأرثوذكسي الفرنسي أندريه بورّلي:
” ليست الصلاة نشاطاً خاصاً تتباين طبيعته عن طبيعة النشاطات التي يُزعم أنها “دنيوية”. ليست عملاً تقوياً على هامش الحياة. بل إن كل عمل في حياة مسيحي لا يمكن إلا أن يكون صلاة. واحد منها فقط لا ينطبق عليه هذا القول، وهو الخطيئة”(2).

وبالمقابل، فإن نمط الحياة يعطي الصلاة زخمها وأصالتها أو بالعكس يحكم عليها بأن تكون شكلية وجوفاء. فصلاة الفريسي مثلاً كما يصفها مثل الفريسي والعشار، وإن كان شكلها ممتازاً – من حيث الموقف الجسديّ المألوف من الأتقياء في ذلك العهد أو من حيث الشكر الظاهر لله على إنعاماته – كانت بالفعل مزيفة وباطلة لأن مواقفه الحياتية كانت منحرفة بسبب استعلائه على الآخرين(3). وقد قيل بهذا المعنى:
“إن شئت أن تصلي كما يجب، فلا تحزن أي نفس”(4).

فالمهم، حسب تعليم الروحانيين، ليس هو أن تكون لدينا صلاة، أن نكتسب عادتها ونحافظ على قواعدها، إنما المهم أن نصير، أن نكون صلاة متجسدة. المهم أن يتحول تركيب الإنسان برمته بحيث يصبح تركيب “كائن ليتورجيّ”، كائن يسجد لله ويتعبّد له بحياته كلّها وبملء كيانه، كائن يستطيع أن يردد قول المزامير: “أسبّح الربّ مدى حياتي وأرتل لإلهي ما دمت موجوداً” (مزمور 103: 33)(5).

2 – لأنها تحجّم حضور الله في حياة الإنسان
من جهة أخرى، فإن الثنائية التي نحن بصددها مرفوضة لأنها تحجّم حضور الله في حياة الإنسان، إذ تحصر هذا الحضور في نطاق واحد من نطاقات الوجود الإنساني، ألا وهو نطاق الأعمال التقوية، وتغرّبه عن سائر المجالات الأخرى التي تشغل الحيّز الأكبر في الحياة البشرية وتستأثر بمعظم وقت الإنسان وجهوده، وكأننا نجد فيها بعض الصدى للمثل الشعبي المعروف – وما أكفره، على بداهته الظاهرية -: “يوم لك ويوم لربّك”.

3 – لأنها تتنكر للتجسّد
أخيراً فإن هذه الثنائية تتنكّر عملياً للتجسد – وإن تمسك أصحابها به عقيدة على الصعيد الذهنيّ. فالتجسدّ يعني أن الله تعهّد طبيعتنا كلها ، فجعل من “جسدنا”، بالمعنى الكتابيّ للكلمة، أي من كياننا الإنساني الكامل الموحّد، مكاناً لحضوره:
• “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وأن روح الله حالًٌ فيكم؟ (…) إن هيكل الله مقدس، وهذا الهيكل هو أنتم”.
(1 كو 3: 16-17)
• “أوَ ما تعلمون أن أجسادكم هيكل الروح القدس، وهو فيكم قد نلتموه من الله، وأنكم لستم لأنفسكم؟ (…) فمجّدوا الله اذًا في أجسادكم”
(1 كو 6: 19-20)
• “فنحن هيكل الله الحيّ”.
(2 كو 6: 16)

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share