التديّن بين الإيمان والسحر

mjoa Tuesday September 16, 2008 344

خواطر حول قصة “دايم دايم” لمارون عبود
 
لقد أوحت لي الدراسة القيّمة التي كتبها الأستاذ ايلي قطرميز حول موقف مارون عبود من الإيمان كما يتجلى في كتابه “وجوه وحكايات”، بعض الخواطر حول التدّين وما يكتنفه من أخطار، انطلقت مما ورد في قصة “دايم دايم”.

.

 
1- الإيمان ولغة الرمز:
        فالاعتقاد بأن البحر يحلو في ليلة عيد الغطاس اعتقاد شعبي كان لا يزال شائعا عندما كنت طفلا، ولعله يستند في الأساس إلى بعض ما ورد في خدمة “تقديس الماء الكبير” التي تقام ليلة عيد الغطاس (بارامون الغطاس) ثم تعاد في يوم العيد بالذات. في هذه الخدمة تعلن الكنيسة (أي الجماعة المؤمنة بالمسيح) أن الرب يسوع، عندما وحّد نفسه بالخطأة الذين كانوا يأتون تائبين إلى يوحنا المعمدان في برية الأردن ويعتمدون منه في النهر، فنـزل بدوره فيه واكتنفه الماء رمز الحياة والموت (أنه يميت ويحيي)، استبق بعمله هذا سرّ صليبه وقيامته اللذين أصبحا منطلقا لتحرير الخليقة وتجديدها. في خدمة “تقديس الماء الكبير” تعلن الكنيسة أن دخول المسيح في مياه الأردن ليعتمد، غرس بذور التجدد ليس في الإنسان وحسب، إنما في الكون المادي أيضا (الممثَّل بالماء الذي لامس جسد يسوع)، وان طاقة التجدد هذه، الني انفجرت بعد القيامة، لا تزال عاملة في صميم لحمة الكون، بصورة بطيئة وخفية، كالخمير في وسط العجين أو كحبوب الحنطة المطمورة في أديم الأرض، إلى أن تتجلى بما يفوق كل تصور عند انتهاء الأزمنة ومجيء الرب. فما حصل مرة في الأردن لا يزال حاصلا اليوم لأن المسيح حاضر أبدا بالروح القدس في الكنيسة التي هي امتداده في التاريخ (“ها أنا معكم كل الأيام والى إنقضاء الدهر”، متى 28 :20) والتي لا يزال من خلالها مكملا عمله الخلاصي. وما خدمة العيد، بهذا المنظار، سوى استحضار مكثف، في يوم متميز، لما يجريه الرب كل يوم بفعل قيامته، من تجديد للكون والإنسان.

 

 
        هذا التجديد، تعبّر عنه خدمة “تقديس الماء الكبير” بتلك التعابير الرمزية التي يركن إليها الإنسان عفويا إذا شاء أن يترجم الحقائق الأكثر صميمية وجذرية في خبرته، تلك التي لا يمكن سوى التلميح إليها بالكلام، لأن ليس في اللغة المألوفة وما تحويه من عبارات ذات مدلول محدود، ما يفيها حقها ويحيط بكل غناها. لذا نرى المرء يلجأ إلى التعبير الشعري إذا شاء أن يعبّر عن معاناة وجدانية عميقة، وكل امرئ شاعر بالفطرة إذا عاش مثل تلك المعاناة، فإذا به يعبّر عنها تلقائيا بالاستعارة، فيخاطب مثلا المحبوب قائلا: “يا نور عينيَّ…” . تلك هي لغة الرمز. فالكلمة الواحدة (“النور” هنا) لم تفقد معناها الأصلي، إنما اتخذت بالإضافة إليه معنى آخر يصعب التعبير عنه بشكل مباشر فيُتخذ المعنى الأول لتهجئته والتلميح إليه (فكما النور يبهج الإنسان، هكذا، وإنما بشكل آخر، يبتهج الحبيب بالمحبوب). هكذا تصبح الكلمة حاملة لمعنى يتجاوز معناها المألوف، وان كان ينطلق منه ويستند إليه ويستلهمه، إنما لا يستطيع إدراك هذا المعنى الجديد إلا من كان متحسسا للخبرة التي يشير إليها. أما إذا كان غريبا عن هذه الخبرة، فهو ينـزع إلى حصر الكلمة في مادية معناها الأول الخام، أي إلى تجريدها من عمقها وبترها عن أفقها البعيد؛ انه، بعبارة أخرى، يسطّح الكلمة ويعطل شفافية الرمز، فتحتجب عن ذهنه البليد الرؤيا التي كان ذاك الرمز مدخلا إليها وكمثل نافذة مطلة على رحابها. وتحضرني هنا حادثة رويت لي في طفولتي على إنها وقعت فعلا في مجتمعنا (حتى انه كان يذكر لي اسم بطلها): كانت أم تعاتب ولدها – وقد اصبح رجلا – على عقوقه، فقالت له: اذكر يا ولدي الحليب الذي أرضعتك إياه في صغرك. فأجاب ذاك الرجل: سوف ابتاع لك رطلا من الحليب أعوضك به عما أطعمتني إياه. هكذا تعامى هذا الرجل – بسبب قسوة قلبه – عما كانت والدته تحاول أن تبلغه إياه بلغة المجاز. هي استخدمت بالفطرة أفضل دالّ على عالم الأمومة وما يمثله من حنان ودفء وأمان وإشباع، فاستخدمت صورة الحليب (التي بيّن الشعراء، وأوضح التحليل النفسي من بعدهم، غنى الخبرة الإنسانية الأساسية التي نشير إليها)، ولكن ولدها أغفل غنى العبارة، مختزلا إياها إلى معناها المادي الصرف.
 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share