مقدّمة: يضمّ هذا الكتاب بعضَ ذكريات مرافقتي، بصفة مرشدٍ، فرقةً شبابيّة مختلَطة تنتمي إلى أسرة الجامعيين في فرع الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. وقد امتدّت هذه المرافقة على نحو ثلاث سنوات، أي من 1/7/1995 إلى 16/6/1998، كنت أجتمع فيها مع الفرقة بوتيرة اجتماع كلّ اسبوع، انخفضت إلى اجتماع كلّ أسبوعَين في السنة الأخيرة، عندما تحوّل دَوْري إلى دور مرافق إرشاديّ بانتظار أن تجد الفرقة، حسب اتفاقنا، مرشداً لها جديداً يخلفني.
عندما اقترحتُ تسلّم إرشاد الفرقة- وقد شغرت هذه المسؤولية بسبب مرض المرشدة السابقة- قَبِلَتْني بترحيب رغم ما كنتُ أعاني منه آنذاك، وما أزال، من آثار تقدّم العمر ضاعفها بشكل فادح مرض مزمن ألمّ بي فأصاب قواي بالوهن ونطقي بالتعثّر. وقد كاشفت الفرقة بذلك منذ لقائنا الأوّل، فقبلتني على علاّتي، ما دفعني إلى الكتابة إلى أحد الأصدقاء بتاريخ 8/10/1995: “إنني سعيد بفرقة الجامعيين المختلطة التي تسلّمت إرشادها (…) أشعر بتجاوب ينشأ بالعمق بيني وبين أعضائها (…) إنّه ينبوع فرح ونضارة فجّره الربّ في حياتي”.
لم يكن بمقدوري، بالطبع، نظراً للأسباب التي أسلفتُها، الإندماج الكليّ في حياة الفرقة، خصوصًا عبر المشاركة في نشاطاتها الترفيهية، كما يُفرض في المرشد إذا شاء أن يقوم بدوره على أكمل وجه. إنما حَرِصتُ على أن أؤدي، بأفضل ما أستطيع في الظروف الراهنة التي أشرتُ إليها، دَوري كمنشّط فكريّ وروحيّ في الإجتماعات، متَّكلاً على العون الإلهي وعلى تعاون رَجَوتُ أعضاء الفرقة أن يمدّوني به.
الكتاب يضمّ بعض ما حاولنا أن نبنيه معًا من فكر ومواقف في هذه الإجتماعات، ويمتدّ محتواه على حوالي عامين، ويتناول، إلى جانب مقاطع إنجيلية كان أعضاء الفرقة يتناوبون على اختيارها فيقدّمون لها أمام رفاقهم ثم يُدعى هؤلاء إلى التفاعل معها، مواضيع متنوّعة، من وحي الإيمان والحياة، يقترحها الشباب فتُجَدْوَل ثم تناقش تباعًا في ما بينهم بمشاركة المرشد، وقد شملت هذه المواضيع عناوين مثل الإيمان والتعصّب والصلاة والصوم ومعرفة الكتاب المقدس وتساؤلات حول مضامينه والغنى والكبرياء والزواج المدني والجنس والإباحية والحب والموت. هذا وقد استغرقَنا موضوع “التعصُّب” طويلاً نظراً لكثرة التساؤلات التي وردت بشانه- وهي مؤشّر إلى “سخونة” الموضوع في الأوضاع التي يعيشها بلدنا. وقد تطارح الشباب التساؤلات المتفرّعة عنه بحيوية اتسمت أحياناً بحدّة كشفت عن الصراع الذي يعيشونه، بين التراث الذي نشأوا في كنفه- وهو تراث حركة الشبيبة الأرثوذكسية التي أعلنت، منذ تأسيسها العام 1942 على يد فريق من الطلاب الجامعيين، “استنكار التعصّب الطائفي” على أنه أحد مبادئها الأساسية الستة، وترجمت، ولا تزال، هذا المبدأ مواقف وأفعالاً، ونادت، سنة 1970، في “وثيقة التزام شؤون الأرض”، التي أقرّها مؤتمرها الثاني عشر، بإقامة نظام علمانيّ- وبين التشنّجات التي خلّفتها في محيطنا الحرب الطائفية التي عصفت بالبلد طيلة خمسة عشر عامًا وأخرجته عن جادّة الصواب.
النمط الذي اعتمدناه في معالجة المواضيع، من كتابية وغيرها، لا يقوم على بحث منهجي متكامل لها، بل على تعاطٍ معها شئناه لصيقًا بما كان يتبادر لدى الشباب من اهتمامات وهواجس وتساؤلات وردّات فعل. ليس هو، بالتالي، بحثاًُ أكاديميًا، مدرسيًا، “مُبَكَّلاً” كما نقول بالعامية- أي لا يترك جانبًا من الموضوع إلا وقد تعرّض له- بل هو بحث إنتقائي، يبرز نقاطاً على حساب أخرى (إلى حدّ أنه، في تعاطي مَثَلَ القمح والزؤان، جنح، كما يبدو لي وكما سوف يلاحظ القارئ، عن الخط الأساسيّ لمدلول المَثلَ)، ويتلوّن بلون الجماعة الشبابية التي تخوضه، وأحوالها وظروفها وهمومها وخبراتها وفضولها. ما فقده البحث من جرّاءَ ذلك من تماسك وتكامل، أرجو أن يكون قد استعاض عنه بما كسبه من حيوية وصدق وأصالة وحرارة وألَق، أشار اليها عنوان الكتاب بتسميته هذه الومَضات المتفرقة، والتي كانت مع ذلك قوتًا يغتذي به القلب، كما يقتات الجسد بالخبر، “فُتاتًا من نور”.
في حلقات هذا الكتاب يمكن للقارئ أن يستمع، من خلال ما عولج من مواضيع، إلى أصوات الشباب وصوت المرشد، متشابكة، متداخلة. فالشباب تعاطوا المواضيع بتلقائية حرصتُ على تشجيعها، إذ كنت أدعوهم إلى التفاعل مع ما هو مطروح قبل أن أبدي أنا أية مداخلة، لا بل كنت، إذا صدر سؤال أو ملاحظة من أحدهم خلال الإجتماع، أعمد أحياناً إلى إحالته إلى المجموعة قبل أن أدلي بدلوي في محاولة الإجابة عنه. كنت أفسح المجال لآراء متعارضة أن تتقابل وأرجئ مداخلتي إلى أن يفرغ الشباب من شحذ أذهانهم واستلهام خبراتهم في التعاطي مع الموضوع، فأعود إليه حينذاك بدوري ملتقطًا قدر الإمكان كل الخيوط التي بدَت والتوجّهات التي ظهرت والأسئلة التي بقيت دون إجابة والإعتراضات التي برزت والشكوك التي عُبّر عنها، كما وروائع الآراء والخبرات التي التمعت أحياناً، وهي كثيرة. كنت أجتهد في أن تأخذ مداخلتي كل ذلك بالحسبان وأن توليه صادق الإهتمام وأنّ تحمله على محمل الجدّ، كل الجدّ.
من هنا كان حرصي على أن تأتي شهاداتي كمرشد، للتراث الإيماني الذي تسلّمناه وأوليت إليّ مسؤولية نقله إلى الفرقة، مصوغةً بحيث تكون قادرة على مخاطبة أذهان وقلوب الشباب الذين كنت أتوجّه إليهم وأتوجّه، عبرهم، إلى إنسان اليوم الذي إياه يمثّلون، كما صنعته حضارته وأوضاعه. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن إنسان اليوم، بما يتميّز به من مواصفات، ومنها مطالبته بفهم معطيات الإيمان بدل الإكتفاء بتردادها آليًا بعد تلقينه إيّاها، هذا الإنسان ليس بحدّ ذاته أسوأ ممن سبقوه، كما قد يحلو للبعض أن يعتقدوا، بل إنه، مثلهم، لا يتعدى كونه مزيجًا من الأضداد.
لذا حرصتُ، في مداخلاتي، على نقل التراث الإنجيلي متوخّيًا التوفيق بين أمانة شئتها كاملة لحدّة مضمونه، وبين التعبير عن هذا المضمون بلغة يألفها الشباب لأنها لغة عصرهم. اجتهدت أن أكشف لهم أن الإنجيل، وإن كان يفوق مشاعرنا ومداركنا ويتحدى ما ارتحنا إليه من مواقف ومفاهيم، إلا أنه ليس غريبًا عن عقل الإنسان وقلبه، في أفضل ما يكوّنهما، وأنه ليس بالتالي فوقية تتجاهل واقع إنسانيته وتحاول إخضاعها لقوالب تتنافر مع طبيعتها، بل هو نداء إلى تحقيق هذه الإنسانية فعلاً، في أصالتها ورحابتها، بالإستجابة إلى توقها المحوريّ الصميم، وأن الله لا يدعونا إلى أن ندير الظهر لحياة هو واهبها، بل إلى أن نجعل من هذه الحياة سخاءً يتجاوب مع سخائه الفيّاض الذي بفضله تخرج في كل لحظة إلى الوجود، وفرصة لعيش الحبّ الذي به تتوهّج.
من هنا أنني، إذا كنتُ قد اجتهدت في أن أعتمد لغة العصر (وبالتالي لغة العقل) في مخاطبتي شباناً تلفّهم أجواؤه وينتسبون إليه، شاؤوا أو أبوا، في تركيبتهم الذهنية والشعورية، فليس، مع ذلك، في ما قلته، أية مجاراة لتلك الدعوة إلى السهولة التي هي من سمات عصرنا وسلبياته ومخاطره. فإنني لم أُخفِ على الشباب أنّ الإنجيل يبقى، اليوم كما كان بالأمس، دربًا بالغ المشقة. هذا هو، على كلّ، ما خبروه بأنفسهم في مواجتهم هذا أو ذاك من المقاطع الإنجيلية، وعبّرت عنه ردّات فعلهم العفوية. ما حاولت أنا أن أبيّنه هو أن تلك المشقة ليست نتيجة نزوة إله همّه أن ينغّص حياة البشر، إنما هي نابعة من مقتضيات تلك الحياة ذاتها إذا ما رغبت في بلوغ ملء الإنتعاش والإكتمال الذي يشاؤه لها ربّها، وأنها إنما هي ثمن تلك الإنسانية التي يريدها الإنجيل فينا فعلية لا ظاهرية، والتي لا تزال، إذا ما نظرنا إلى تاريخ البشرية الراهن وما يكتنفه من ظلم وقهر وقسوة وإستئثار وبؤس، مشروعًا لم يتحقق بعد في زمن النزول على القمر والتخطيط لغزو الكواكب. رجائي أن يكون شباب الفرقة قد خبروا أيضًا،إلى جانب مشقة الإنجيل- والشهادات التي أدلى بها بعضهم تومئ إلى ذلك- أن في قلب تلك المشقة، يلتمع فرح خفيّ وفريد يعطي الحياة طعمًا وجدوى.
هذه اللحظات المُميزة التي عشناها في كنف الرب وحنانه، سجّلتُها بحبّ، مستعيداً ما حملَته من نور وتعزية. وها إنني أقدّمها أولاً لأعضاء فرقة “نور الراعي الصالح” على صفحات هذا الكتاب الذي وضعناه بالفعل معًا، وإن أخذت أنا على نفسي مسؤولية صياغته. أرجو أن تذكّرهم فصوله، كلّما رغبوا في العودة إليها، بالمعيّة المباركة التي أُعطينا أن نحياها. كما أتمنى أن تكون لهم بمثابة مرجع ساهموا في وضعه، يستندون إليه في ممارستهم عملاً إرشاديًّا أطمح لكل واحدٍ وواحدةٍ منهم أن يضطلع به وأن ينقل عبره إلى سواه ما أُتيح له هو من ضياء.
كما أنه يسعدني أن يتاح للخبرة المشتركة التي يعبّر عنها الكتاب، أن تكون عونًا لكل المرشدين الذين يتجندون، في حركة الشبيبة الأرثوذكسية وغيرها، وفي الكنائس المسيحية كافة، من أجل مساعدة الشباب على اكتشاف بهاء المسيح، وأن توفّر لكل شابّ وفتاة فرصة لتغذية إيمانه والسير به قُدُمًا في درب الله.
25/6/2000
ك.ب.
تقديم
رافقتُ فرقة “نور الراعي الصالح” طيلة ثلاثة أعوام. وفي معظم هذه الفترة، التي كانت لها أهمية في حياتي، اعتدتُ أن أسجّل لنفسي، مرّة بعد مرّة، وقبل أن يطويها النسيان، وقائع كل إجتماع تعقده الفرقة بحضوري. هكذا تراكمت عندي الأوراق المكتوبة تسجّل، حبرًا على ورق، لحظات ثمينة من اللقاء الإنساني والسعي المشترك.
ولكي لا تبقى مخفيّة في ملفّاتي، أحببتُ أن أذيع، بعد حصولي على موافقة الفرقة صاحبة العلاقة، وبدءًا من نشرها تباعًا في أعداد نشرة “ينبوع المحبة” التي تكرّمت باستضافتها- وهي نشرة يصدرها شباب فريق المكتبة في فرع الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية-، نبذات من هذه الصفحات، راجيًا أن أتمكّن من أن أنقل عبرها، لمن يهمّه من القراء، شيئاً من حلاوة اجتماعاتنا حول كلمة الله، نتعاطى نصّها وامتداداتها الحياتية، مستلهمين الروح الإلهي الذي كان يتلطّف باتّخاذ كلّ واحد وواحدة منا، حتى في تساؤلاته القلقة واعتراضاته وشكوكه، مَعْبرًا لنوره إلى الآخرين، في شركة المحبة التي كانت تجمعنا.