لا عذر من غير توبة … وليندم اللبنانيّون على ما فعلوا

الأب جورج مسّوح Sunday October 5, 2008 159

يعرّف المعلّم بطرس البستاني في قاموسه “محيط المحيط” نقلاً عن الكلّيّات لأبي البقاء لفظ “عذر” بقوله: “العذر في الأصل تحرّي الإنسان ما يمحو به ذنوبه بأن يقول لم أفعله، أو فعلتُ لأجل كذا، أو فعلتُ ولا أعود، وهذا الثالث توبة. فكلّ توبة عذر بلا عكس”. العذر، إذًا، ثلاثة أنواع ليست كلّها ممدوحة، بل واحد منها فقط. فالعذر يمكن أن يكون إنكارًا لفعل قام به صاحبه في الواقع، وهذا كذب بواح. ويمكن أن يكون العذر تبريرًا لخطيئة عظمى بمعنى إسباغ الصفة التخفيفيّة عليها لأسباب ودوافع وطنيّة أو إنسانيّة عامّة، وهذا هروب من مواجهة الحقيقة بعريها الكامل. ويمكن أن يكون العذر توبة بمعنى الاعتراف العلنيّ بارتكاب الخطيئة والتعهّد بعدم الرجوع إليها، وهذا العذر الكامل والمحمود. فكلّ توبة عذر، وليس كلّ عذر توبة.

يقول صاحب المحيط “اعتذرَ عن فعله ومن فعله أبدى عذره واحتجّ لنفسه”. الاعتذار يمكن أن يحمل معنى الاحتجاج للنفس، أي إيجاد التبريرات لفعل آذى الآخرين، إلى حدّ التنصّل من المسؤوليّة. الاعتذار يمكن أن يتضمّن أيضًا حججًا نبيلة وسامية لفعل مهين أو شائن، وهذا أعظم النفاق والتجديف. والتجديف هو أن يقول المرء عن الخير أنّه شرّ محض، وعن الشرّ أنّه خير محض، أو أن ينسب إلى الله فعل الشرّ وإلى الشيطان فعل الخير. وأن ينكر المرء فعلاً معيبًا قام به لهو ربّما أخفّ وطأة من أن يبرّر هذا الفعل بنسبته إلى الدفاع عن قضايا كبرى تخصّ الوطن أو المجتمع.

ليس في المسيحيّة عذر إلاّ بمعنى التوبة وعدم الرجوع ثانية إلى ارتكاب ما اعتُذر عنه. وليس في المسيحيّة عذر إن لم يؤدِّ إلى المصالحة. “فإذا قدّمتَ قربانك إلى المذبح وذكرتَ أنّ لأخيك عليك شيئًا، فدع قربانك هناك أمام المذبح وامضِ أوّلاً فصالح أخاك وحينئذ ائتِ وقدّم قربانك” (متّى 5، 23-24). الوقوف أمام المذبح، أي القدّاس، مناسبة للمصالحة والتوبة، لا للتحدّي وتبرير ما اقترف من خطايا وأخطاء. ليس منبر المسيح منبرًا لتقديس الذات، بل كما فعل بطرس الرسول عندما أجرى المسيح أمامه آية الصيد العجائبيّ، فصرخ قائلاً: “ابتعد عنّي يا ربّ أنا رجل خاطئ” (لوقا 5، 8). انتفع بطرس من حضرة الربّ أمامه فلم يعجب بنفسه بل اكتشف كم هو خاطئ فتاب، وهذا كان هدف المعجزة. القدّاس الذي هو بمثابة الوقوف في حضرة المسيح مناسبة لمحاسبة الذات لا لتبجيلها على ما ارتكبته من خطايا وآثام. فلينتفع مَن يريد أن ينتفع.

ليس في المسيحيّة عذر بل ندم. وفعل ندم، بحسب البستاني، يعني “أسف وحزن وتاب، أو فعل شيئًا ثمّ كرهه”. فبطرس الرسول بعد أن أنكر معرفته بالمسيح واكتشف خطأه “بكى بكاءً مرًّا” (لوقا 22، 62). ولبيد الشاعر الجاهليّ كأنّه يلاقي الإنجيل حين يقول: “ومَن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر”. لم يبرّر بطرس فعلته بالقول إنّه كان يخاف من أن يقبض عليه اليهود، فيلاقي مصير معلّمه السيّد المسيح، بل حزن وندم من كلّ قلبه واعترف في قرارة نفسه بأنّه أخطأ، ولم يعد البتّة إلى نكرانه. المسيح افتتح عهدًا جديدًا بين الله والإنسان، قوامه الحياة الجديدة القائمة على التوبة المستمرّة. ومَن لم يعلن كرهه لما اقترفته يداه من مساوئ لم يرَ التوبة بعد، ولم يصبح ابنًا للعهد الجديد.

الندم هو ما نحن اللبنانيّين بأمسّ الحاجة إليه. والندم ليس مطلوبًا من فرد واحد وحسب، بل من عموم الشعب اللبنانيّ. فمَن خطف وقتل وارتكب المجازر، ومَن صمت على مرتكبي المجازر، ومَن صادر بيتًا أو أرضًا، ومَن نهب المحالّ والمرافق العامّة، ومَن سرق قرية غادرها أبناؤها، ومَن فسد في الدولة، ومَن صفّق لأمراء الحرب، ومَن انتخب أمراء الحرب أو أمراء الطوائف، ومَن ما زال يؤمن بأنّ مَن صنع الحرب هو القادر على صنع السلم الأهليّ، كلّ هؤلاء مدعوون إلى كره ما فعلوه وإلى فعل ندامة صميم يقطعون فيه مع الماضي.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 5 تشرين الأوّل 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share