ملاحظة: هذا النص هو الجزء الأكبر من حديث أُلقي في المؤتمر الطلابي الرابع لحركة الشبيبة الأرثوذكسية (صيف 1960)
يا اخوتي،
الالتزام المسيحي: إن المسيحية ليست بشكل من الأشكال مجموعة شعائر وفروض خارجية يتممها الإنسان ليفي دينًا عليه نحو ربه ولكنها تبقى على هامش حياته. كلا! فالمسيحية “كلّية، شموليّة” بأسمى ما لهذه الكلمات من معنى: “تحب الرب إلهك من كل قلبك وكل ذهنك وكل قوتك…” إنها تشمل الإنسان كله والحياة كلها: “إن أكلتم أو شربتم ومهما عملتم، فاعملوا كل شيء لمجد الله”. ويُدخَل إليها بالتوبة التي هي تحديدًا كما وردت في النص اليوناني الأصلي للإنجيل metanoia أي تغيير الذهنية واكتساب عقلية جديدة… ليست المسيحية إلى جانب الحياة إنما هي فيها، في صميمها، إنها روحها ومحورها وإن لم تكن هكذا فهي حلم يُتغنى به وكلمات جميلة نتسلى بها ولكنها لم تعد تمت بصلة إلى ديانة الإله المتجسّد. إن كنّا نؤمن أن ابن الله تجسّد فهذا يعني أن الحياة الإلهية التي فينا تُعاش في الجسد ويعبِّر عنها في كل ظروف وتفاصيل الحياة اليومية التي نعيشها…
ولأن المسيحية ديانة التجسّد فهي أيضًا ديانة التجلّي والتأله: “لقد صار الإله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا”. بالمسيح تتأله الحياة كلها ولا يعود مظهر من مظاهرها، مهما كان وضيعًا، غريبًا عن المجد الإلهي.
ولكن هذا التجلّي لا يتم إلا عن طريق الاشتراك في الصليب، ذلك لأن نور الله لا يغمرنا إلاً إذا انفتحنا له وهذا الانفتاح أليم لأنه إنسلاخ عن الأنا وإسلام لله: “لأنكم لستم لأنفسكم بل قد اشتريتم بثمن”. فتقدمة النفس لله من خلال ظروف الحياة كلها وكافة مظاهرها وحوادثها شرط أساسي من شروط الحياة المسيحية: “فاحرّضكم إذًا، أيها الاخوة، بمراحم الله، أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة، مقدّسة، مرضية لله، تلك هي العبادة التي يقتضيها العقل منكم”. (رومية 12: 1).
هكذا يتضح لنا أن المسيحية بما أنها ديانة التجسّد والتجلّي والتقدمة، تقتضي الالتزام كأحد مقوماتها الأساسية… الالتزام المسيحي ضرورة جوهرية مهما كان نوع الحياة التي يسلكها المؤمن…
الإلتزام الحركي:
لهذا الموضوع وجهان: الالتزام الحالي في الحركة وإلتزام الحركي في مستقبله.
1- الالتزام الحالي في الحركة:
يجدر بنا أن نتساءل أولا عن معنى انضمامنا إلى الحركة. الكثيرون منا قد يدخلون الحركة لأن مظهرًا من مظاهرها استهواهم أو لأن أحد رفاقهم منتسب إليها أو لأن حماسًا أرثوذكسيًا دفعهم إلى الانخراط وهلم جرّا … ولكن ثمة سؤال نطرحه على أنفسنا عاجلاً أم آجلاً: “ماذا يعني انضمامي للحركة بالنسبة لحياتي”؟ والجواب على ذلك أجده في مقال قديم جدًا ظهر باللغة الفرنسية في مجلة النور عندما كانت لم تزل مطبوعة على الآلة الكاتبة وكان يبدأ هكذا: “أيها الشبان والشابات، يا من تركتم ريح الحركة العاصفة تحملكم، هل فكرتم بأنكم قد ربطتم بها حياتكم كلّها”؟ معنى انضمامنا إلى الحركة هو إذًا معنى التكريس. ليست الحركة جوًا نقضي فيه بعض أوقات الفراغ ونلتقي فيه برفاق ننسجم واياهم ونتذوق بالاشتراك معهم بعض الأفكار الجميلة والعواطف النبيلة. الحركة أعمق من ذلك بكثير، إنها توجيه للحياة كلها. الحركة انبثقت عن مأساة، مأساة كنيسة وجدت لتكون منارة للضوء الإلهي وينبوعًا للحياة الإلهية فاضحت مهمشة جريحة تئن تحت وطأة التاريخ وعبء الجهل والخطيئة. لا يمكن لأعضاء الحركة أن ينسوا أنهم قد أخذوا على أنفسهم هذه المأساة وأنه لا يمكن أن تكون لهم راحة قبل أن ينبلج الفجر وأن حياتهم كلها شهادة ودعوة وأن وجودهم طليعة واستباق للنهضة التي من أجلها يعملون.
أ- هذا يعني أولاً الالتزام في الحياة الحركية:
الحركي لا يمكن أن يكون في الحركة مستمعًا ومتقبلاً فقط. يجب ان يكون منتجًا، أن يشعر بأنه مسؤول. إذا رأى في الحركة ما لا يروق له لا يتخذ موقفًا سلبيًا من اعتزال عن العمل أو مشاغبة أو تمرّد لأن هذا موقف تغلب عليه “مركزية الأنا” égocentrisme وليس موقف إلتزام ومسؤولية، ولكنه يساهم مساهمة إيجابية في الإصلاح مبديًا رأيه بالأساليب القانونية ومندفعًا أكثر من ذي قبل في العمل الحركي. الحركي الحق هو الملتزم في النشاطات الحركية المختلفة من تلقاء نفسه دون أن يلاحَق ويُستجدى، وإذا قام بها لا يعتبر أن له فضلاً على الحركة لأن ذلك يعني أنه اعتبر الحركة جسمًا غريبًا عنه وأنه بالتالي لم يلتزم بها حقًا. النشاطات الحركية تخصّه شخصيًا بقدر ما هو حركي، إنه مسؤول عن سيرها كرئيس المركز ومسؤول عن فشلها وتأخرها. لذا فهو يعمل أكثر مما ينتقد لأن العمل لا يدع له وقتًا كافيًا للإنتقاد، وإذا أنتقد فانتقاداته بنّاءة، يقبلها الجميع لأن تفانيه في الحركة يدعمها ويعطيها وزنًا وقيمة. وإذا التزم في نشاط حركي اعتبر ذلك لا مركزًا أو مقامًا بل مسؤولية وتهيأ لهذه المسؤولية بدرسه وباصلاح نفسه. الحركي الملتزم يبدع في أي حقل نشاط يُعهد به إليه لأنه مسؤول ولأن الشعور بالمسؤولية مصدر للإنتاج الأصيل الخلاق. نشاطات الحركة محكوم عليها بالركود والجمود بقدر ما يكتفي المكلفون بها بتلقي التوجيهات سلبيًا لئلا يحمّلوا أنفسهم مشقة التفكير الشخصي، كونهم لم يلتزموا بعد.
ب- الحركيّ الحق يلتزم أيضًا في تفكيره:
إنه يعمل – خاصة إذا كان من أهل الفكر كالطلاب مثلاً – على تكوين فكر مسيحي وحكم مسيحي في كل أمور الحياة. إنه من المخجل حقًا أن نرى شبانًا لم تتجاوز ثقافتهم المدرسية مستوى شهادة الدروس الإبتدائية يجهدون الفكر ويسهرون بعد نهار من العمل المضني ليدرسوا مبادئ المذهب السياسي الذي ينتمون إليه بينما نحن ساهون غافلون ننتظر ساعة الإجتماع الأسبوعي لنتلقى سلبيًا تعاليم مات من أجلها عشرات الألوف من الشهداء وكرّس الكثيرون من أقطاب القداسة والفكر حياتهم لدرسها وشرحها، أما نحن فنترك للغير أمر اكتسابها عنّا وتلقيمنا إياها بالملعقة الصغيرة كالأطفال. إنّ لنا رغبة في الاطلاع على أشياء كثيرة، فغريب إهمالنا لكلمات الحياة الأبدية إذا كنا نودّ أن نكون حركيين ملتزمين. بماذا نجابه التيارات العقائدية المتنوعة التي تجتاح عالمنا وتحاول أن تتسرب إلينا بشتى الوسائل إذا لم تكن لدينا ثقافة ارثوذكسية تمكننا من أن نلقي نظرة صحيحة إلى الكون والإنسان ومعنى الوجود وغايته فنمحّص هكذا بالفكر المسيحي كل المذاهب الفكرية التي نحتك بها ونتخذ منها موقفًا واعيًا رجوليًا عوض أن نكون “أطفالاً مضطربين محمولين بكل ريح تعليم بمكر إلى مكيدة الضلال” كما يقول الرسول بولس. هل نقبل ونحن قد بلغنا من الثقافة العالمية درجة متوسطة أو عالية أن تبقى ثقافتنا الدينية بدائية صبيانية؟ ألا تعتقدون أن هذا التفاوت يشكّل عاجلاً أو آجلاً خطرًا على إيماننا ويجعله فريسة هيّنة لكل الذين يحاولون بشتى الوسائل أن يقتلعوه منّا؟ أو تعتقدون أنه يمكننا بهذه المفاهيم الدينية السطحية المبعثرة أن نحمل الرسالة المسيحية إلى البيئة المثقفة التي نعيش في وسطها؟ يجب، أيها الاخوة، أن نعي نقصنا هذا وأن نتألم له. لقد لمست بنفسي أن حركيين يتخذون أحيانًا بسذاجة مواقف فكريةً تناقض صريحًا أبسط المبادئ المسيحية دون أن يعوا هذا التناقض ودون أن يعيه رفاقهم الحركيون الحاضرون. إنه لمن السهل حقًا أن نلقي تبعة ذلك الجهل الصارخ على المسؤولين. كأن في الحركة أناسًا لا عمل لهم سوى قيادة الحركة وكأننا لسنا كلنا مسؤولين، علينا أن نستفيد من أوقات الفراغ التي يتركها لنا عملنا المهني لنعبَّ من المعلومات الدينية لكي نثقف بها أنفسنا ونبني بها الآخرين. ارجو المعذرة إن تكلمت بشيء من الشدة عن هذه الناحية ولكنني أعتقد أن لا مبرر لوجود الطلاب كهيئة قائمة بذاتها في الحركة تحظى منها بعناية خاصة إن لم تؤلف هذه الهيئة نخبة مفكرة تكوّن لنفسها بصبر وجهد وعناء فكرًا مسيحيًا نيرًا يشع منها لينير الأذهان “ويسبيها إلى معرفة المسيح”.