تتكاثر النظريّات وتتضارب في شأن السيّد المسيح ورسالته وأعماله وسيرته. وليس ثمّة شخصيّة تاريخيّة أثارت جدالات عقائديّة أكثر من السجالات التي نشأت بين المسيحيّين في شأن طبيعتَي المسيح المتجسّد ومشيئتيه، وعن علاقته الأقنوميّة بالآب وبالروح القدس. ولم تقتصر النظريّات على المسائل العقائديّة بل تعدّتها إلى أمور ثانويّة لا تمسّ جوهر الإيمان. فقرأنا منذ زمن نظريّة خرافيّة وغير منطقيّة تبنّاها العديد من الكتّاب مفادها أنّ المسيح عاش في الهند أو في الشرق الأقصى حتّى بلغ الثلاثين عامًا، وجلب معه من هناك بعض الحكمة الهنديّة وعمل على ترويجها في فلسطين ومحيطها.
على مثال هذه النظريّة تبرز كالطفيليّات من حين إلى آخر نظريّات إيديولوجيّة عدّة بعيدة عن جوهر رسالة المسيح، وعن المثال الذي أراد المسيح أن يصل إليه معتنقو هذه الرسالة. فصدرت كتب ألّفها لبنانيّون تحمل عناوين ذات طابع قوميّ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر “المسيح السوريّ” و”المسيح وُلد في لبنان لا في اليهوديّة”، وثمّة نظريّات تقول إنّ المسيح لم يكن يهوديًّا بل كان كنعانيًّا. فتصبح بيت لحم اليهوديّة التي وُلد فيها المسيح كما تؤكّد الأناجيل بيت لحم أخرى موجودة في لبنان الذي لم يرد لفظه في الأناجيل ولا في أسفار العهد الجديد كلّه. كما تصبح قانا الجليل التي أجترح فيها المسيح أولى معجزاته بلدة لبنانيّة.
في المقابل، نرى في الغرب مَن يروّج ليهوديّة يسوع وعدم خروجه عن الإرث الدينيّ اليهوديّ، وأنّه لم يشأ تأسيس خطٍّ جديد مخالف للديانة اليهوديّة. ويذهب منظّرو هذا التوجّه إلى القول أنّ المسيحيّة اختراع ابتكرته عبقريّة بولس الطرسوسيّ، ولولا بولس لبقيت المسيحيّة فرقة يهوديّة. وهذا ما تبنّاه بعض الجداليّين المسلمين الذين يقولون إنّ بولس هو الأصل في تشويه الإيمان المسيحيّ وانحرافه عن التوحيد الإلهيّ وانضوائه في الإشراك الثالوثيّ. والتقليل من شأن شخصيّة المسيح لحساب بولس أو سواه من الرسل وقع فيه بعض المسيحيّين العرب ممّن يزعمون التمرّس بالدراسات اللاهوتيّة والكتابيّة، فذهبوا إلى “البحث عن يسوع” عن طريق القصص الافتراضيّة غير المثبتة بالحجّة العلميّة، منتقلين من افتراض إلى افتراض مبنيّ على الافتراض السابق الذي هو أصلاً في حاجة إلى برهان كي يُبنى عليه.
من النافل القول أنّ الأناجيل هي القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع المسيحيّين كافّة، إلى أيّ كنيسة انتموا. وإذا تركنا جانبًا المسائل العقائديّة النابعة من الاعتقاد الراسخ لدى كلّ جماعة من الجماعات المسيحيّة، واكتفينا بالكلام على المسيح الإنسان كما تصوّره الأناجيل، لرأينا ببساطة أنّ المسيح لم يكن داعيةً إلى قوميّة معيّنة ولا منظّرًا إيديولوجيًّا، بل كان يدعو إلى تغيير جذريّ على الصعيد الإنسانيّ أساسه التوبة والحياة الجديدة مع الله. والمسيح الذي نشأ في بيئة يهوديّة مولودًا من أمّ يهوديّة لم ينحصر في بني قومه ولم يرضَ بالانعزال نهجًا له، بل كسر جدار اليهوديّة لينفتح على الأمم كافّة، فيأتي اليوم مَن يريد جعله لبنانيًّا أو سوريًّا أو يهوديًّا بالمعنى القوميّ للكلمة. وفي هذا ضرب صريح لأهمّ ما قام به المسيح، وهو إعلاء شأن الانتماء الإنسانيّ على الانتماء القوميّ الضيّق.
يقول اللاهوت المسيحيّ أنّ ابن الله صار إنسانًا كي يتقدّس كلّ إنسان على وجه البسيطة إلى أيّ عرق أو قوم أو بلد انتمى. لقد شاء الله أن يحصل التجسّد في فلسطين التاريخيّة، هذا هو الواقع الذي لا يسع أحدًا أن يغيّره. لكنّ المسيح أكبر من أن تحدّده المشاعر العصبيّة والولاءات القبليّة والعشائريّة والوطنيّة والقوميّة. ولا تستيقظ عصبيّة المسيح إلاّ حين يقتضي التضامن مع الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى والأسرى. فقومه ووطنه ليسا سوى هؤلاء المستضعَفين في الأرض. يولد المسيح في لبنان حين تكون العصبيّة العليا الجامعة لدى اللبنانيّين الذود عن أحبّة يسوع “هؤلاء الأصاغر”. حينئذ فقط يكون العيد للمولود لا للتجّار ولا للمستهلكين على السواء.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 21 كانون الأول 2008