قراءة نقديّة في مسرحيّة “الحُرم الكبير”: تسطيح للخلاف واختزال للتاريخ

الأب جورج مسّوح Sunday February 1, 2009 185

يخرج المشاهد من مسرحيّة “الحرم الكبير” (تأليف الأب فادي تابت) بانطباعات شتّى، أبرزها أنّ مَن سبّب الانشقاق بين الشرق والغرب المسيحيّين عام 1054 شخصان شرسان يتملّكهما الغضب هما البطريرك القسطنطينيّ ميخائيل كيرولاريوس والكاردينال هومبرتو، فيما توحي المسرحيّة للمشاهد أنّ البابويّة بريئة ممّا حدث آنذاك إذ تقدّم البابا لاون التاسع قدّيسًا يصلّي في كلّ حين من أجل الإبقاء على العلاقات الطيّبة مع الشرقيّين، وهو يحاول أن يهدّئ من غضب كارديناله هومبرتو ضدّ القسطنطينيّين. فإن كان البابا لاون يعترض على احتجاجات هومبرتو ضدّ الشرقيّين ويريد السلام، كما توحي المسرحيّة، فلماذا بعث هذا الكاردينال الغضوب على رأس وفد إلى القسطنطينيّة للسعي إلى حلّ المشاكل مع بطريركها الصعب المراس؟

في الواقع، لا يسع أيّ باحث جدّيّ في تاريخ الكنيسة أن يغفل أهمّ مسألة أدّت إلى الانشقاق، وهي الخلاف بين الشرق والغرب في شأن “الأوّليّة البابويّة”. فاللاهوت البيزنطيّ يؤكّد أنّ البابا بين الأساقفة هو “الأوّل بين متساوين” وليس له أن يتدخّل في حياة البطريركيّات الأخرى. لكن في الغرب تغلّب شيئًا فشيئًا مفهوم مختلف تمامًا للأوّليّة بحيث نصّب البابا نفسه سلطةً مطلقةً تعيّن الأساقفة وتعزلهم، وباتت حقوق الأساقفة مجرّد مشاركة في “كمال السلطة” الرومانيّة. وقد كان في محله التوجّس الشرقيّ من النزوع البابويّ إلى إحكام سلطته على كلّ الكنائس، فما شاهدناه بعد الانشقاق من إحكام قبضة البابا على كلّ الكنائس في العالم إلى حدّ إعلان عقيدة “العصمة البابويّة” عام 1870 يؤكّد مخاوف الكنائس الشرقيّة المتمسّكة برئاسة الأسقف الأبرشيّ على كنيسته المحلّيّة.

لم تسلّط المسرحيّة الضوء على هذه المشكلة البابويّة التي أساسها حبّ السيطرة، ولم تسلّط الضوء على الخلاف اللاهوتيّ في شأن انبثاق الروح القدس وإضافة عبارة “والابن” إلى دستور الإيمان، وهو السبب الرئيسيّ الذي أدّى إلى الانشقاق، بل اكتفت المسرحيّة بإبراز الخلافات البسيطة كاستعمال خبز الفطير أو خبز الخمير في القدّاس، وإرخاء اللحية أو قصّ الشعر، وزواج الكهنة أو تبتّلهم… فهل حاولت المسرحيّة ممارسة التضليل عبر تضخيمها المسائل الصغرى وتسخيفها المسائل الكبرى؟ وما يدفعنا إلى هذا التساؤل هو محاولة المسرحيّة تبرئة المؤسّسة البابويّة من مسؤوليّتها المباشرة عن الانشقاق الذي حدث من خلال تخطئة هومبرتو موفد البابا البريء.

هذا التضليل يتكرّر مرارًا وتكرارًا في المسرحيّة، وبخاصّة عند الحديث بشكل سلبيّ عن القدّيس فوتيوس الكبير الذي كان على خلاف مع روما قبل نحو قرن من الانشقاق. ففيما تؤكّد الأبحاث التاريخيّة التي قام بها العلاّمتان دفورنيك وغرومل أنّ البطريرك فوتيوس كان خادمًا كبيرًا لوحدة المسيحيّين لا أبًا للانشقاق. ففوتيوس لم يعترض على الأوّليّة البابويّة في حدّ ذاتها بل طلب أن تمارَس ضمن احترام القوانين وضمن شركة الكنيسة الجامعة. كما اعتبر فوتيوس أنّ الغرب وحده لا يمكنه إضافة عبارة “والابن” على دستور الإيمان من دون موافقة الكنيسة الجامعة. فتأتي المسرحيّة لتوحي للسامعين أنّ فوتيوس واحد من آباء الانشقاق.

وتقدّم المسرحيّة صورة مشرقة للبطريرك الأنطاكيّ بطرس الثالث، وتبرزه ساعيًا إلى تهدئة البطريرك ميخائيل، وهذا صحيح. غير أنّها تغفل ما ورد في رسالة وجّهها إلى ميخائيل القسطنطينيّ متمسّكًا بأرثوذكسيّة الإيمان النيقاويّ، إذ يقول: “إن وافق اللاتين على حذف الإضافة، أي “والابن”، من دستور الإيمان، لن أطلب منهم شيئًا آخر، وسأضع ما تبقّى في عداد الأمور القليلة الأهمّيّة… فلتُترك شؤون اللحى للحلاّقين” (مقالة لأوليفييه كليمان في تاريخ الكنيسة المفصّل، المجلّد الأوّل، دار المشرق، ص 249-250).

تبرز المسرحيّة حدث الحرم المتبادل بين هومبرتو وميخائيل كيرولاريوس كأنّه الحدث الأهمّ في حدوث الانشقاق، فيما يؤكّد المؤرّخون أنّ العلاقات استمرّت بعدها في مدّ وجزر إلى أن استولت الحملة الصليبيّة الرابعة (1204) على القسطنطينيّة ودنّست الكنائس ونهبت القصور والمنازل. ولا أحد ينكر أنّ الباباوات أطلقوا وباركوا الحملات الصليبيّة التي أتت إلى الشرق لاحتلاله ولإخضاع المسيحيّين الشرقيّين لسلطتهم. وقد اعتبر المؤرّخ الفرنسيّ ميشال بالار أنّ اليونانيّين واللاتين “لم يعيروا أيّ اهمّيّة” لهذه الحادثة. أمّا المؤرّخ الأب يوحنّا مايندورف فأكّد أنّ الانشقاق لم يكتمل إلاّ بما اقترفته الحملة الصليبيّة الرابعة من اعمال مشينة.

لقد سقطت مسرحيّة “الحرم الكبير” في التبسيط والاختزال. فلا يحقّ لمَن يريد تقديم عمل مسرحيّ تاريخيّ أن يكون انتقائيًّا للروايات فيتبنّى إحداها ويسقط الأخرى ممّا يساهم في تشويه الحقائق. كما لا يحقّ لمَن يزعم العمل التأريخيّ أن يعمل على التحسين والتقبيح بحسب هواه، بل أن يقدّم الوقائع التاريخيّة كما هي بروح حياديّة نقديّة. ولا يحقّ لمَن يرغب بإعادة الشركة الكنسيّة بين الكنيستين الشقيقتين أن يعمل على تسطيح القضايا الخلافيّة الأساسيّة، بل مواجهتها للوصول إلى حلّها بما ينسجم مع تقاليد الكنائس واحترامها كلّها.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 1 شباط 2009

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share