كيف نوقف “التطوّر” إلى الوراء ؟

الأب جورج مسّوح Sunday February 15, 2009 91

“البقاء للأصلح” عبارة توجز نظريّة داروين عن النشوء والارتقاء وأصل الأنواع. وقد تبنّاها بعض المفكّرين منذ القرن التاسع عشر وحاول تطبيقها على المستوى الاجتماعيّ، من دون أن يتبّنى استنتاجاتها البيولوجيّة أو الطبيعيّة. ولسنا هنا لنناقش لاهوتيًّا صحّة هذه النظريّة أو خطأها، وبخاصّة أنّ الكتاب المقدّس ليس كتابًا يقدّم نظريّات علميّة حول أصل الكون وانبثاق النور وخلق الإنسان. فكلّ ما يبتغيه واضع الكتاب المقدّس هو التأكيد على أنّ الله هو بارئ الكون وكلّ المخلوقات المرئيّة وغير المرئيّة. أمّا كيف تمّت عمليّة خلق الجدّين الأوّلين، آدم وحواء، فالرواية الكتابيّة لا يمكن فهمها إلاّ بإطارها الرمزيّ لا الحرفيّ.

بيد أنّ الكتاب المقدّس يتّفق مع القراءة الاجتماعيّة لنظريّة داروين بالقول إنّ الإنسان هو قمّة الخليقة والكائن الوحيد الذي بوسعه السيطرة على مقدّرات هذا العالم الذي يحيا فيه وتحسينه وتطويره نحو الأفضل. وإذا قال أصحاب الارتقاء الاجتماعيّ إنّ الإنسان انتقل من طور الصراع من أجل البقاء إلى طور التعاون والتكافل بين أبناء المجتمع الواحد، فالفكر الدينيّ التوحيديّ لا يخالف هذا القول، إذ تقوم الأديان على أساس “التعاون على البرّ والتقوى” من أجل خير الإنسان وإعمار الأرض، وعلى أساس الجماعة من دون إلغاء فرادة كل شخص ينتمي إلى إحداها.

يوجز ألبرت حوراني في كتابه الشهير “الفكر العربيّ في عصر النهضة” ما قاله شبلي الشميّل جوابًا على السؤال: “ما هو الأصلح للبقاء؟” بقوله: “كما أنّ الجسد يكون صالحًا للبقاء عندما تعمل كلّ أجزائه بتعاون، هكذا يقوم المجتمع بعمله على أحسن وجه عندما تعمل أجزاؤه معًا في سبيل خير الجميع” (دار نوفل، ص 256). التطوّر الطبيعيّ يعني، إذًا، تحوّل التنافس بين أفراد المجتمع الواحد من أن يكون تنازعًا واقتتالاً إلى أن يصبح تنافسًا خلاقًا وسباقًا للوصول إلى بناء الحياة العامّة الجامعة واحترامها. هكذا يعمل العضو الواحد من أجل سعادة كلّ الأعضاء. وإن استعرنا قولاً للرسول بولس، لتساءلنا معه: هل يمكن أن يكون الجسد سليمًا إذا اعتلّ أحد أعضائه؟

يستعمل الطبائعيّون تعبير الانتخاب الطبيعيّ، مع بعض الشروط اللازمة، للحديث عن التنازع على البقاء وعن التطوّر والارتقاء. غير أنّ مجتمعاتنا الحديثة اختارت عن حقّ الانتخاب الشعبيّ وسيلةً لاختيار “الأصلح” ليتولّى مقاليد الحكم فيها، حتّى لا نقع في ديكتاتوريّة الفرد الفارض نفسه أصلح الناس جميعًا. ومع تفضيلنا للخيار الديموقراطيّ، لا يسعنا القول إلاّ أنّ الذين يمارسون حقّهم الانتخابيّ في اختيار “الأصلح” قد يخطئون الصواب، ذلك لأنّ جزءًا منهم لا يتّبعون سوى هواهم، ولا يقيمون وزنًا للمعيار الأخلاقيّ في انتقائهم حكّامهم وقادة مصيرهم ومصير أولادهم.

التطوّر ليس حتميًّا، بل يستوجب شروطًا وآليّات كي يكتمل ويتحقّق على أرض الواقع. وواقعنا الحاضر إن قارنّاه بما عبر منذ قرن ونصف لوجدناه يتقهقر أو في أحسن الأحوال يراوح مكانه. فبعد ازدهار الأحزاب وتنوّعها الإيديولوجيّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تعود العائليّة المناطقيّة والحزبيّة لتؤدّي دورًا أكبر ممّا كان مقدّرًا لها منذ عقود. وبدل أن تتّسع الأحزاب لتضمّ لبنانيّين من مختلف الطوائف والمذاهب تقلّصت – ما عدا قلّة منها – إلى أحزاب على قياس الطائفة وبإرث عائليّ، أو أحزاب خاضعة كلّيًّا لسلطة القائد الأوحد الفذّ، أو أحزاب أصوليّة متشدّدة تسعى إلى حكم دينيّ تمييزيّ عاجلاً أم آجلاً. فمَن يمكن أن يختار هذا المواطن اللبنانيّ المحتار من بين هؤلاء كافّة؟

ثمّ كيف يمكن بناء الدولة في ظلّ أجواء كهذه؟ وكيف يمكن بناء “المدينة” بما يحمله هذا اللفظ من معانٍ سامية، وقد تحوّلت معظم مدننا إلى أرياف عامرة؟ ماذا ينفع الكلام عن ابن خلدون وعن نظريّته في الانتقال من عصر البداوة إلى الحضارة، والتصحّر الفكريّ يهاجمنا من كلّ حدب وصوب؟ ما جدوى الكلام عن الارتقاء الاجتماعيّ أو السياسيّ مع ما نراه حولنا من ضجيج صاخب؟

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 15 شباط 2009

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share