إنتكاسات على وقع الانتخابات

الأب جورج مسّوح Monday June 15, 2009 177

يؤكّد لنا توالي الأيّام ضرورة ابتعاد السلطة الدينيّة عن التدخّل المباشر في الشأن السياسيّ. ولسنا مضطرّين، في بدء كلامنا، إلى التذكير بوجوب التمييز بين الشأن الوطنيّ العامّ والشأن السياسيّ اليوميّ. فهذا أمر بديهيّ. لكنّ التذرّع بالشأن الوطنيّ لإقحام الرأي الدينيّ بالشأن السياسيّ فهو الذي يثير الالتباس، إذ لا حدود واضحة تسهم في رسم معالم كلا الشأنين. ويزداد الالتباس مع ازدياد الخطاب الطائفيّ أو المذهبيّ احتقانًا ومع حدّة الاستقطاب القائم على التخوين والتهديد والذهاب بالوطن إلى كمائن الخطر والزوال.

ثمّة أمور عديدة لاحظناها إبّان الاستحقاق الانتخابيّ وما سبقه من جدالات حامية امتزجت فيها واختلطت الأبعــاد الطائفيّة والكنسيّة والسياسيّة، إلـى حـدّ تزكية مرشّح وتفضيله على آخر لدى بعض القيادات الدينيّة. وهذا أمر غير مألوف في كنيستنا، بل هو بدعة، وليس كلّ بدعة حسنة. فما جدوى انخراط هذه القيادات في تأييد جهة ضـدّ أخـرى وتصويــر هــذا التأييــد بصفتــه تأييدًا كنسيًّا؟ هل يحقّ للقيادات الدينيّة استعمال موقعها الكنسيّ ونفوذها الروحيّ في سبيل دعم مرشّح ضدّ آخر؟ لعمري إنّ ذلك انتهاك لرفعة المقام، وامتهان يستجلبه لنفسه صاحب الموقع.

ومن دون أن ندخل في جدال حول وجوب الفصل بين الشأن السياسيّ والشأن الدينيّ، يجدر التذكير بأنّ المرجعيّة الدينيّة هي مرجعيّة محصورة بالشأنين الدينيّ والأخلاقيّ، وأنّ المرجعيّة السياسيّة تحدّدها الآليّات الديمقراطيّة في صناديق الاقتراع. فإلى متى سنظلّ نحنّ إلى نظام الملل في الدولة العثمانيّة؟ أليس توق السلطة الدينيّة إلى الانشغال في الشأن السياسيّ والتحدّث باسم الطائفة هو نوعًا من الحنين إلى حقبة سوداء مضت حين كان رئيس الملّة الدينيّ هو ممثّلها والناطق الوحيد باسمها أمام السلطان العثمانيّ؟ كيف نسعى إلى دولة مدنيّة وديمقراطيّة، ونرضى، بالوقت عينه، أن نكــون طائفـة قوامهــا العصبيّة القبائليّة والعشائريّة والزبائنيّة؟ وقبل ذلك كلّه ننسى أنّنا كنيسة الربّ يسوع المسيـح التي تحضن جميـع أبنائهـا من دون محابـاة في الوجوه.

أمّا في ما يختصّ بالعلمانيّين، ولا سيّما مَن عبر منهم في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، فثمّة أمور أثارت تساؤلات كبرى حول التزامهم الشأن السياسيّ ومدى انسجام هذا الالتزام مع ما عهدناه في نشأتنا الكنسيّة ومع مَن أنشأنا شبّانًا يافعين غيارى على الفكر الكنسيّ. فإبّان الانتخابات، غلبت التحالفات الظرفيّة التي تغيب عنها المعايير الأخلاقيّة، ويغلب عليها طابع المصلحة الشخصيّة. وانساق جزء لا يستهان به من أبناء التيّار النهضويّ في الكنيسة، ترشّحًا واقتراعًا وعملاً في الماكينات الانتخابيّة، ضدّ تاريخهم ونضالهم الاجتماعيّ، وضدّ حسّهم النقديّ ولا طائفيّتهم في سبيل موقع هنا أو مقعد هناك. ففقدوا جرّاء ذلك بعض مصداقيّتهم وتألّقهم.

ولم يكن لنا، نحن أبناء النهضة في الكنيسة، نكهة مميّزة وخطاب جامع لا يفرّق طائفيًّا أو مذهبيًّا بين أبناء الوطن الواحد. لم يكن لنا موقف من قانون انتخابيّ طائفيّ عاد بنا القهقرى خمسين سنة إلى الوراء، فجعلنا قطعانًا طائفيّة تحرّكها الغريزة الحيوانيّة لا روح اللَّه. وإلاّ فكيف كنّا لنرضى، نحن الداعين إلى إلغاء الطائفيّة في أحد مبادئنا، الاندراج في لوائح انتخابيّة، أو التصويت لصالحها، لوائح لا يشتدّ عصبها إلاّ على النفخ في النار المذهبيّة والعزف على آلات الموت الرخيصة وشراء أصوات الفقراء والمعوزين؟ ثمّ هل لجأ الملتزم نهضويًّا إلى قيمه الإنجيليّة السامية وجعلها نبراسًا على ضوئه يقرّر ترشّحه أو عدمه إن كان مرشّحًا، أو لمَن سيقترع إذا كان ناخبًا؟

هذه الانتخابات تشهد لسقوط عظيم تخلّى فيها البعض عن كنسيّتهم، ليرضوا بأن يكونوا ممثّلي طائفة. وهي تشهد، أيضًا، لقبول الكنيسة الأرثوذكسيّة نفسها كطائفة بعد أن جاهدت أكثر من قرن، أو منذ تأسيس الحركة، من أجل دولة لاطائفيّة. هل مَن يذكر بيان المجمع المقدّس في بداءة الحروب اللبنانيّة العام 1975 ودعوته إلى نبذ الطائفيّة؟ هي انتكاسة بحاجة إلى تقويم شامل وتصويب للمسيرة التي بدأها الآباء المؤسّسون. مَن ينقذنا من هذا الضلال؟ العودة إلى الفكر الكنسيّ الأصيل والإخلاص لكلمة الإنجيل هما ما نعوزهما في هذا الزمن القهّار.

 

مجلة النور، العدد الرابع 2009، ص 170-171

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share