“أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” قول للسيّد المسيح يتمّ استحضاره كثيرًا في النقاشات الدائرة اليوم حول جواز تدخّل رجال الدين في الشأن السياسيّ أم عدم جوازه. وهذا الاستحضار غالبًا ما يرد على لسان مَن يقولون بعدم جواز هذا التدخّل. غير أنّ استعمال الآية في هذا السياق يبقى قاصرًا عن بلوغ الدلالات العميقة التي يتضمّنها معنى الآية كما فهمها التراث المسيحيّ منذ نشأة الكنيسة إلى أيّامنا الحاضرة.
لم يشأ المسيح أن يثبت القطيعة بين مُلك قيصر الأرضيّ ومُلك الله، بل أراد عبر قوله “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” تصويب العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الإنسان والله من جهة وبين الإنسان والسلطان من جهة أخرى. فحين سأل الهيرودسيّون المسيح: “أيحلّ لنا دفع الجزية إلى قيصر أم لا؟” أجابهم: “أروني نقد الجزية”، فأتوه بدينار. فقال لهم: “لمَن الصورة هذه والكتابة؟” قالوا “لقيصر”. فقال لهم: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” (متّى 22، 15-22). والصورة والكتابة في هذا النصّ لهما دلالة كبرى، إذ يذكرهما يسوع فإنّما بغاية تذكير سامعيه بألاّ ينسوا أنّ لديهم كتابًا إلهيًّا، وأنّهم بحسب رواية الخلق في هذا الكتاب، يحملون صورة الله في أنفسهم. فلا يجب أن تشغلهم الجزية عن رعاية صورة الله فيهم للبلوغ إلى المثال.
من هنا، لم يدعُ المسيح إلى إقصاء الله عن شؤون العالم بعامّة والدولة بخاصّة. بل أطلق المسيح تحدّيًا كبيرًا بوجه السلطة القائمة مفاده السؤال الآتي: هل يستطيع أيّ حكم أرضيّ أن يرقى إلى مستوى الملكوت السماويّ؟ هل يمكن تحقيق الملكوت السماويّ في عالمنا الحاضر أم يجب انتظار اليوم الأخير لبلوغ هذا الأمل؟ وهذا معنى ما ورد في صلاة “أبانا” التي علّمها المسيح لتلاميذه، فعبارة “ليأتِ ملكوتك” تتطلّب من قائلها أن يسعى بجهاد يوميّ لجعل هذا الملكوت حاضرًا حيث يحيا، لا أن ينتظره بكسل وسلبيّة وكأنّ الأمر لا يعنيه.
لم يتحدّث المسيح البتّة عن فصل الدين عن الدولة، أو عن العلمانيّة بمعناها الثقافيّ الراهن، فالأمر كلّه لم يكن مطروحًا آنذاك. كما أنّه لم يتحدّث عن الخضوع الأعمى للسلطة الأرضيّة القائمة، وهو نفسه يلقّب هيرودس بـ”الثعلب” (لوقا 13، 32). ما أراده المسيح بالحقيقة هو الخضوع المطلق لله وحده، والخضوع المشروط للسلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة معًا. فحين طولب المسيح بتأدية الضريبة الدينيّة، ضريبة الهيكل، قال لبطرس معترضًا: “إنّما البنون أحرار”، ولكنّه دفع الضريبة كي لا يعثرهم (متّى 17، 24-27).
في الواقع، ينبغي التمييز بين مفهوم الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين وبين المؤسّسة الكنسيّة القائمة على خدمة هذه الجماعة. وإذا كانت الكنيسة (ومن صفاتها أنّها مقدّسة) في مسيرتها التاريخيّة لا تزعم أنّها تحتكر صوت الله، فكم بالأحرى المؤسّسة الكنسيّة يمكنها أن تدعّي لنفسها أنّها تنطق باسم الله. المؤسّسة تخطئ وتنحرف، لأنّها بشريّة ولأنّ بشرها لهم أهواؤهم ومصالحهم الذاتيّة. وكم من مرّة أخطأت المؤسّسة ليس في النوافل فقط، بل حتّى في إقرار العقائد الأساسيّة، وأتى فرد واحد فصحّح مسيرتها وأعادها إلى سواء السبيل. رأي المؤسّسة الكنسيّة ليس بالضرورة هو الرأي الكنسيّ السليم. ولذلك هو رأي يناقَش ولا يحتمل العصمة ولا يجانب احتمال الخطأ.
فمهما كانت مدلولات قول المسيح “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، ينبغي السعي إلى جعل ما لقيصر لله أيضًا. وهنا يكمن دور الكنيسة (بصفتها جماعة المؤمنين الملتئمة حول المسيح) بأن تربّي أبناءها على القيم والفضائل الإنجيليّة، وأن تترك لهم توسّل الطريق الفضلى التي ينبغي سلوكها كي يجعلوا من هذا الوطن الذي يحيون فيه صورةً مثلى عن الملكوت الآتي. في إحدى المرّات قال المسيح لبطرس: “إنّ أفكارك ليست أفكار الله، بل أفكار البشر” (متّى 18، 23). المؤسّسة الكنسيّة ليست معصومة أكثر من بطرس، فلتبتعد عن الهوى.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 5 تموز 2009