سِرّ الألحاظ لذكرى أليف خوري

mjoa Sunday May 2, 2010 735
كنت في شبابي أُعَلٍّم في مدرسة مار الياس. وإذا بي أرى ذات يوم، في أحد صفوفي، طالباً جديداً كان فتى في منتصف العقد الثاني من عمره. أول ما لفتني فيه كانت عيناه البرّاقتان، المتوقدتان. كان يُدعى أليف خوري. ذلك كان أول عهدي به. ولمّا توطدت العلاقة بيننا عرّفته على الحركة وعلى الفرع الطلابيّ لها الذي كان ينشط في المدرسة المذكورة. وما لبث أن التزم بها وتعاظم التزامه مع السنين وازدادت مسؤوليّاته في عمل الحركة وشهادتها.
وتحوّلت علاقة التلمذة بيننا، في ظلّ التزامنا الحركيّ المشترك، إلى علاقة صداقة توطدت مع الأيام. و لا أزال أحتفظ إلى الآن بصورة فوتوغرافيّة أُخِذَت له معي عندما كان يُشارِك في مؤتمر طلابيّ عُقِدَ في كُليّة البشارة في بيروت وكنت أنا أحد المُحاضِرين فيه. ونَمت الإلفة بيننا إلى حدّ أنّني في عام 1964، شِئت أن أقضي العطلة الصيفيّة، مع زوجتي وطفلي البكر الذي كان قد أكمل عامه الثاني، في “قرية” أليف و”دسكرته”، المُحاطة “بجبالٍ خضر” تغنّى بها لاحقاً في نشيده “الخدمة”، في بزبينا الهادئة، الوادعة، التي كان يُهدهِدُني، في لياليها، صوت المياه الجارية لسقاية البساتين.
تعرّفت فيها مع أسرتي على عائلته الكريمة التي كنّا نتردّد باستمرار على بيتها. وصلّيت معه أيام الآحاد في كنيسة القرية.

***

ثم باعدت الأيام بيننا، والجغرافيا والمشاغل والإهتمامات. ولكن صورة تلك العينين الفتيتين المتوقدتين  بقيت عالقة في ثنايا فؤادي، أثراً بليغاً وملهماً.
حتى إذا ما علمت برحيل أليف المُباغِت والمُفجِع، عاودتني تلك الصورة بإلحاحٍ غريب.
وكأنّ أليف يدعوني بها أن أتأمل، إنطلاقاً منها، سرّ الموت الملازم لسرّ الحياة، وقد بدا لي أنّ كليهما يتلخّص في سرّ العيون أو ما دعيته “سرّ الألحاظ”.

***

لقد قيل بحقّ أنّ “العينين هما مرآة الروح”. ذلك أنّه، عبر الوجه الإنساني على العموم، وبنوعٍ أخصّ عبر تلك النافذتين اللتين تبلغ بهما شفافيّته ذروتها، تطلّ الذات الإنسانيّة بحدّة فرادتها وسموّ تعاليها وعمق معانيها.
في “محيط النظر” (l’océan du regard) كما يسمّيه اللاهوتيّ الكبير والشاعر المعاصر أوليفيه كليمان، الذي رحل عنّا في مطلع 2009، يتجلّى سرّ الحضور الإنسانيّ الذي، وإن ارتبط كليّاً بمقوّماته البدنيّة، فإنّه حرٌّ منها بآن، يعلو عليها ويتجاوزها، إن لم يكن إلاّ لأنّه قادر على إدراكها واستيعابها والتبحّر في تفاصيلها وتعقيداتها إلى ما لا نهاية. حتى أنّه إذا ما جنح، كما هو شائع اليوم، إلى اختزال ذاته في تلك المقوّمات البدنيّة، لا يمكنه أن يفعل ذلك إلاّ إستناداً إلى إشرافه عليها الذي يعني تمايزه الأكيد عنها وبذلك يكون مناقضاً لنفسه بنفسه. ثم إنّ في هذا الحضور الإنسانيّ المتجمّع في العينين والمتوثّب منهما، نداء يتحدّى محدوديّة كون ليس بوسعه أن يُلبّيه. ففيهما يلتمع توق الإنسان اللامتناهي وظمؤه الذي لا يرتوي وسعيُه القلق أبداً وتساؤلُه الذي لا يهدأ.

وهنا يُطرح السؤال. هل يُعقل أن يغور هذا التوثّب في سكون القبر وينتهي الأمر؟ هل يُعقل أن يتجمّد هذا التساؤل الذي لا يعرف حدّاً في صمت أبديّ؟ هل يُعقل أن يؤول مخاض الكون العسير طيلة مليارات من السنين، ومسيرته التصاعديّة الدؤوب، عِبرَ مزيد من التعقيد والتركيز، التي أدّت إلى بروز كائن يُلخّص الكون ويتجاوزه بآن لأنّ الكون يعي بفضله ذاته ويجد معناه، أن يؤول ذلك المخاض إلى إبادة الكون لكائن أتى تتويجاً لمطافه الطويل، والحكم باللامعنى على ما يُعطي لمسيرته معنى، وكأنّه “شهوة لا جدوى لها”، كما قرّر سارتر؟

ليس لنا الخيار إذاً إلاّ بين العبثيّة والسرّ. فإما أن يكون الوجود كلّه عبثيّاً بفناء الإنسان، وهذا، في آخر المطاف، إنتحار للعقل البشريّ لا تنقذه منه كلّ المنجزات التي يُحققها على الصعيدين العلميّ والحضاريّ. وإمّا ان نتقبّل سرّ الله الذي يفوق العقل ولكنه بآن ينيره ويُنقذه من مأزقه.

إما أن نوسّع مداركنا ليُتاح لها أن تنفتح على السرّ، إمّا أن نضطر إلى الرضوخ لتلك العبثيّة التي عبَّرَت عنها قصة سمعتها في حداثتي، تروي أنّ ظمأ العين الذي لا يرتوي واشتعالها الدائم التوهّج إنّما تكفي لإخمادهما حفنة من تراب.

المؤمن إنّما هو ذاك الذي يرتضي أن يفتح قلبه ومداركه، مداركه المتجمّعة في “قلبه” أي في مركز شخصيّته، حيث يلتقي ويتداخل ويتآزر العقل والشعور والرغبة والإرادة، هو الذي ينفتح بكلّيته إلى سرّ الله، إلى سرّ محبّة الله الذي كُشِفَ لنا بيسوع المسيح. هذا يعرف أنّ “الله محبّة” وأنّه اتخذ البشر أحبّاء أخصّاء له، لأنّه جعلهم على صورته، وأنّه يودّهم أكثر بكثير مما يستطيعون أن يودّوا أنفسهم، لأن حتّى “شعور رؤوسهم كلّها محصاة” في عينيه، وأنّ من يُحبّ على هذا المنوال يهمّه مصير كلّ محبوب إلى أبعد حدّ، وأنّه إذا كنا نحن البشر الفانين نتمنّى تلقائياً أن يخلد من نحبّه ولا نستطيع إلى ذلك سبيلاً، فالله الذي لا يموت قادر على ذلك كما أكّد يسوع للصدّوقيين الذين كانوا يرون في الموت فناء إذ قال لهم: “إنّ الله إله إبراهيم واسحق ويعقوب، والله ليس إله أموات بل إله أحياء، فالجميع إذاً عنده أحياء”، وأنّ الله أحبّ البشر بهذا المقدار، حتى أنّه، بيسوع المسيح، شاء أن يُشارِكَهم مرارة مذاقة الموت فتجرّعها حتى الثمالة، حتى خبرة التخلّي الإلهيّ، حتى “خبرة الإلحاد” كما يقول أوليفيه كليمان، إذ هتف يسوع على الصليب: “إلهي إلهي لماذا تركتني”، وذلك كي، باجتيازه الموت، وظفره عليه بالقيامة، “يُبتَلع الموت إلى غلبة” على حدّ تعبير بولس الرسول، وأنّ هذا الإبتلاع لِمَا يُسمّيه الرسول نفسه “العدو الأخير” يبدأ عند موت كلّ واحد منّا إلى أن يكتمل ويتّخذ بُعداً كونيّاً في اليوم الأخير.

***

بهذه الروحيّة يحلو لي أن أُهدي إلى روح أليف رائعة أهواها كتبها شاعر مرهف الإحساس مثله، وهو سولّي برودوم Sully Prudhomme (1839 – 1907) حائز على جائزة نوبل للأدب سنة 1901، وهي عبارة عن صيحة وجدانيّة مؤثّرة أطلقها من أعماق شكّه وشكّ عصره، في انتفاضة منه على الفناء. هذه، إذا ردّدها المؤمن إنطلاقاً من إيمانه، تتعدّى صعيد التمنّي وتتخذ نبرة نبويّة. إنّ ما يُبرّر اعتمادي هذه القصيدة إنّما هو عنوانها “العيون” الذي يندرج في سياق تأمّلي كلّه، وقد عرّبتها على الوجه التالي:

“زرقاء كانت أم سوداء
محبوبة كلّها، جميلة كلّها
عيون لا تُحصى أبصرت الفجر.
وها هي ترقد في أعماق القبور
فيما الشمس لا تزال تشرق

“ليالٍ أعذب رقّة من النهار
فتنت عيوناً لا تُحصى.
النجوم لا تزال تلتمع
ولكن العيون ملأها الظلام.

“تُراها فقدت ألحاظها،
كلا وكلا، هذا غير ممكن.
بل إنّها تحوّلت إلى وجهةٍ ما
صوب ما يُقال له “اللامنظور”.

“وكما أنّ الكواكب المائلة
تفارقنا ولكنها لا تبرح السماء،
هكذا فللحدقات مغيبها،
ولكنّه غير صحيح أنّها تموت.

“زرقاء كانت أم سوداء،
مُنفَتِحة على فجر فائق الإشراق،
في الجهة الأخرى من القبور،
ما زالت العيون المُغَمَّضَة تُبصِر”

***

قرَّت عيناك، أخي أليف، لأنّك عندما أغمضتهما قسراً عن دنيانا، فتحهما ربّنا، برقّة حنانه، على سحر البهاء الذي لا يوصف.

في ذكرى الأربعين لأليف خوري
أحد الشعانين
ك.ب.
28 – 03 -2010

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share