لمزيد من الموضوعيّة التاريخيّة

الأب جورج مسّوح Sunday June 6, 2010 110

ما إن تباشر قراءة كتاب “قسّ بن ساعدة الإيادي، حياته – خطبه – شعره” (منشورات الجمل) حتّى تصاب بالخيبة. فالكتاب لا يستوفي الشروط العلميّة في تقصّي الروايات القديمة، ولا في نقد المصادر، بل تراه يتبنّى ما يقوله التراث الإسلاميّ في شأن شخصيّة مسيحيّة من دون أيّ جهد تدقيقيّ. والدكتور أحمد الربيعي، مؤلّف الكتاب، يكاد يقرّ بما قلناه حين يقول في مقدّمته: “ولقد جمعنا في الكتاب كلّ ما وقعنا عليه من أخبار قسّ وكلامه تحقيقًا للإحاطة التي يتطلّبها المنهج العلمي، وليس لإيماننا بصحّة كلّ ما يروى عنه”. مع ذلك، أتت الإحاطة وافية لكن ليس وفق المنهج العلميّ، وإذ أورد الربيعي الروايات عن قسّ لم يقل بصحّة أيّ منها يؤمن وبصحّة أيّ منها لا يؤمن.

اقتصر جهد الربيعي، إذًا، على تقميش الروايات القديمة وتسطيرها على هناتها. فقد أورد، على سبيل المثال، أكثر من ثلاثين رواية عن الخطبة الأولى لقسّ واستنتج من هذه الروايات نصًّا موحّدًا لها، لكنّه لم يقل لنا كيف وصل إلى هذا الاستنتاج. كما أنّه لم يعقد بحثًا حول صحّة نسبتها إلى قسّ، أو حتّى ما يمكن أن يكون قد أضاف إليها بعض الرواة من عبارات ليست لقسّ. فقد كان يجدر بالربيعي أن يبحث في صحّة قول قسّ الذي توفّي حوالى عام 600، هذا إذا ثبتت تاريخيّته: “إنّ لله دينًا هو أحبّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه ونبيًّا قد حان حينه وأظلّكم زمانه وأدرككم إبّانه فطوبى لمَن آمن به فهداه وويل لمَن خالفه فعصاه”. برأينا، تستحقّ هذه العبارة دراسة نقديّة تضع الأمور في نصابها. فهل حقًّا تنبّأ قسّ بمجيء نبيّ في عصره؟

نقول ردًّا على السؤال أعلاه إنّ ثمّة شكًّا كبيرًا في نسبة هذا القول إلى قسّ، وإنّ هذا القول وُضع على لسان قسّ وهو ليس منه، وذلك لأسباب عديدة يأتي على رأسها كون الروايات كلّها مصدرها إسلاميّ ودوّنت، بطبيعة الحال، بعد الدعوة الإسلاميّة. أمّا طابعها فدعويّ من حيث حاجتها إلى نبوءات نصرانيّة غير متوفّرة في المصادر الأساسيّة للمسيحيّة عن مجيء نبيّ عربيّ. ولو كان هذا النصّ المنسوب لقسّ قد دوّن قبل بدء الدعوة الإسلاميّة لكنّا وافقنا على القول بنبوءة قسّ، لكنّ هذا غير متوفّر إلى الآن.

لا يجد الربيعي سوى القرآن سندًا على صحّة كلامه، فيلجأ إلى الآية السادسة من سورة الصفّ التي تقول إنّ المسيح بشّر برسول من بعده “اسمه أحمد”، كي يؤكّد قوله: “إنّ تبشير قسّ بمجيء نبيّ الإسلام محمّد أمر محتمل، فالمصادر تقول إنّه كان نبيًّا من أنبياء العرب في الفترة التي بين عيسى ومحمّد”. وتصل بعض المصادر إلى حدّ القول بتنبّؤ قسّ بمجيء محمّد والأئمّة الاثني عشر! فأيّ هذه المصادر نصدّق؟ لكن يسعنا القول إنّ كلّ تلك المصادر ليست ذات ثقة بالمعنى العلميّ للكلمة، بل هي مصادر تبحث عن دلائل على صحّة إيمانها خارج تراثها وكتبها المعتمدة. وفي هذا السياق يتبنّى الربيعي ما ورد في الكتاب المهزلة “إنجيل برنابا” الذي أجمعت الدراسات الجدّيّة أنّه كتاب قد دوّن في القرن الرابع عشر ولا يمتّ إلى برنابا حواري المسيح بصلة.

ينتقد الربيعي في خاتمة كتابه ما قاله الأب لويس شيخو عن قسّ بن ساعدة في كتابه الشهير “النصرانيّة وآدابها بين عرب الجاهليّة” (منشورات دار المشرق). غير أنّنا نجد في كتاب شيخو الصادر قبل كتاب الربيعي بنحو ثمانين عامًا حسًّا نقديًّا أكبر بكثير ممّا نجده عند الربيعي. ونذهب إلى ما استنتجه شيخو حين يقول: “وكذلك أخبار قسّ المرويّة عن كتبة العرب فإنّها أقرب إلى أساطير الأوّلين وخرافات الأقدمين. فيقول الرواة هناك إنّه أدرك زمن بقايا الحواريّين ورأسهم سمعان الصفا، وإنّه عاش ستّمائة بل سبعمائة سنة، وإنّه بشّر بمجيء نبيّ المسلمين، وأشياء أخرى أقرب إلى الترّهات منها إلى صحيح الروايات”.

ويبقى السؤال: لماذا يصرّ الباحثون العرب في التاريخ العربيّ من أمثال الربيعي على إظهار نصارى العرب ما قبل الإسلام وكأنّ النصرانيّ الجيّد هو النصرانيّ الذي يبشّر أو يؤمن بمجيء نبيّ الإسلام الذي يصحّح ما هو قائم قبله، وإلاّ فنصرانيّته زائفة؟ ألا تكفي الباحثين العرب عروبة نصرانيّيهم قبل الإسلام وبعده وفعل إيمانهم المشهود له بالأمّة العربيّة؟

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 6 حزيران 2010

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share