يختم القدّيس لوقا الإنجيليّ روايته عن بشارة الملاك جبرائيل لمريم بقبول مريم المهمّة الموكلة إليها من لدن الله. فمريم حين سمعت دعوة الله إليها لم تتردّد ولو هنيهة واحدة، بل استجابت لهذه الدعوة الإلهيّة قائلةً: “ها أنا أمَة الربّ، فليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1، 38). جواب مريم ليس جبريًّا، بل هو نابع عن حرّيّة إنسانيّة مسؤولة. حرّيّة مريم مصونة حتّى أمام قدرة الله العليّ. هو لم يلزمها بولادة المسيح بل احترم الله حرّيّتها التي هو نفسه مَن وهبها إيّاها. انتظر الله من مريم أن تقول نعم، وقد كان بمقدورها أن تقول لا، فقالت نعم. هنا بدأت سيرة مريم مع القداسة.
الحرّيّة ميزة يتمتّع بها الإنسان من دون المخلوقات كافّة. لذلك فسّر التراث الآبائيّ الآية الكتابيّة القائلة: “خلق الله الإنسان على صورته ومثاله” (سفر التكوين 1، 26) بأنّ المقصود بالصورة ليس الصورة الجسميّة، بل الحرّيّة التي تميّز الإنسان عن البهائم. الله بفائق محبّته للبشر وهب الإنسان صورته، أي الحرّيّة. وبرهان محبّة الله للإنسان لم يكن سوى هذه الحرّيّة السامية. غير أنّ الإنسان بهذه الحرّيّة ذاتها اختار أن يبتعد عن الله، الذي هو الخير الأسمى، فسقط في الشرّ. الله لم يخلق الشرّ، بل خلق الخير لأنّه خيّر والصلاح لأنّه صالح. فالشرّ، وفق هذا التراث المسيحيّ، ليس سوى انعدام الخير كما أنّ الظلام هو انعدام النور.
حرّيّة أبوينا، أو جدّينا، الأوّلين آدم وحواء، أدّت بالإنسان إلى الهلاك، لأنّها حرّيّة انحرفت عن المحبّة التي شاءها الله بين الإنسان وأخيه الإنسان. فباتت الحرّيّة تعني أن يعمل المرء ما يشتهيه وما تزيّنه له نفسه متوهّمًا أنّه يستطيع أن يكون هو بدوره إلهًا. أليس هذا بالضبط الإغواء الذي استعملته الأفعى عندما قالت لحواء في الرواية الرمزيّة عن الخلق: “إنّكما في يوم تأكلان (من الشجرة) تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ” (التكوين 3، 5). والعداوة لم تنشأ بين آدم وحواء إلاّ بعد سقوطهما في التجربة، فآدم برّر نفسه أمام الله بأن قال: “المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلتُ” (التكوين 3، 12). حرّيّة آدم وحواء أدّت بهما إلى العداوة بعد أن شاء الله أن تكون الحرّيّة صنو المحبّة.
أتت مريم، حواء الجديدة، لتعيد الحرّيّة إلى مسارها الصحيح. فمقابل حواء التي أرادت بمعصيتها الله أن تكون إلهة، قالت مريم: “أنا أمَة الربّ” وأطاعت كلمة الله. أمّا المفارقة فتكمن في سقوط مَن شاءت أن تكون إلهة، وفي سموّ مَن أقرّت أنّها “أمَة الربّ”. حواء الأولى كانت في الفردوس وسقطت، لم يحمها كونها في الفردوس، أمّا مريم فكانت في العالم، ولم يمنعها كونها في العالم أن تصون نفسها من دنسه. من هنا نرى أنّ جواب مريم ليس سوى ردّ مباشر على تجاوب حواء مع الأفعى. لذلك كان أساسيًّا أن تكون مريم حرّة، كما كانت حواء حرّة، فكما أدّت حرّيّة الأولى إلى السقوط أدّت حرّيّة الثانية إلى الحياة.
ولمن يقول لماذا كان ضروريًّا أن توجد مريم لتلد كلمة الله، فقد كان باستطاعة الكلمة أن يأتي إلى العالم من دون وساطة امرأة أو أن يأتي على شكل ملاك أو بأيّ شكل آخر، نقول بأنّ دور مريم هامّ جدًّا فهي المكان الذي التقت فيه المشيئة الإلهيّة بالمشيئة الإنسانيّة، وهي التي نطقت باسم البشريّة كلّها وعبّرت عن مشيئة البشريّة بالخلاص من الخطيئة والموت. ففي شخص مريم تحقّق التناغم بين الله والبشر، التناغم الذي لم يتمّ منذ بدء الكون. مريم هي التي بدأ بها الخلق الجديد منذ أن حملت الكلمة.
قال السيّد المسيح: “تعرفون الحقّ، والحقّ يحرّركم” (يوحنّا 8، 32). ليس ثمّة حرّيّة سوى بالحقّ، والحرّيّة من دون حقّ حرّيّة منفلتة من عقالها. مريم أدركت هذا الأمر وانصاعت له، فخدمت الإنسانيّة كلّها بإنجابها المسيح. فضيلة مريم أنّها قدّمت النموذج الصالح للإنسان الحرّ العارف التصرّف بحرّيّته. فكم نحن أحرار بالحقيقة؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 15 آب 2010