دير سيدة صيدنايا

mjoa Saturday October 2, 2010 217

في التسمية:
اسم له عدة معاني إلا أن الأرجح أنها كلمة سريانية تعني سيدتنا وتعني أيضاً صيدنايا أي صيد الظباء وقد تعني الصيداوي نسبة إلى صيدا وفق ما أشار إليه المطران يوسف داوود على السريان بدمشق بكتابه (القصارى).
إلا أن الأرجح أنها تعني الصيد لما كان يتوفر في هذه المنطقة من صيد للطير والوحش.

Saydnaya_3

في الموقع:
هي بلدة في جبل القلمون الأسفل تبعد عن دمشق مسافة 30 كم. بنيت في لحف الهضبة التي يقوم عليها دير السيدة والتي تكاثرت المساكن فيها حالياً حتى اتصلت بالدير من ناحيته الغربية والجنوبية وامتدت حتى بداية سهل المعرة.
في القرن الثالث المسيحي وما تلاه، اعتُبرت هذه المنطقة مع كل مناطق جبال القلمون موئلاً للرهبان والمتوحّدين الذين قصدوا التنسك بعدما انتقلت إليهم هذه الشهادة الحية (الرهبنة) من برية مصر حيث عاش القديس انطونيوس الكبير وتلامذته ومن منطقة العمق في وادي العاصي حتى شمالي سورية حيث عاش القديس سمعان العمودي ومدرسته الرهبانية المتمثلة بتلامذته الذين عمّروا قلعة سمعان التي أصبحت مدرسة رهبانية زاهرة في القرون اللاحقة.
وسرعان ما غدت منطقة صيدنايا من أغنى مناطق بلاد الشام بالدفق الروحي المسيحي الذي جعلها موئلاً للرهبان والراهبات.
وليس أدلّ على مكانتها الروحية هذه في فجر المسيحية ممّا تحتويه الآن من الآثار الرومانية والبيزنطية من كنائس وأديار ومدافن ومزارات. وكانت قديماً مدينة حصينة الموقع، ولا تزال أطلال بروجها وحصونها تدل على عظمتها ومنها البرج المربع الواقع شرقي البلدة والمسمّى كنيسة القديس بطرس أو كنيسة اللولبة لوفرة تعرّجات سلالمه.
الظاهر من بنيان هذا البرج أنه كان مَعقِلاً صغيراً لحماية إحدى الجاليات المهاجرة التي كانت قد استقرت في الضاحية الشرقية للبلدة كما تدل الآثار والخطوط الرومانية الظاهرة في الحفريات وتلك المغاور والكهوف التي كان يلجأ إليها المسيحيون في الأجيال الأولى بحسب روايات مؤرخ دمشق الخوري أيوب سميا.


دير سيدة صيدنايا البطريركي:
هو أهم الآثار المسيحية لا في صيدنايا فحسب، بل في منطقة بلاد الشام. بناه الملك يوستنيانوس الأول سنة 547 وكان متوجهاً لقتال الفرس فعسكرَ على مسافة من دمشق في البادية القريبة وبينما كان يبحث عن الماء لجواده رأى غزالة شهية للصيد وكان من هواة تلك الرياضة فراح يطاردها حتى أخذ منها التعب مأخذه ووقفت على صخرة عالية. وعندما تهيأ ليرميها بالسهم استحالت إلى سيدة وقور متّشحة بالبياض يشع منها نور عظيم وأشارت للملك الصياد: “لا ترمِ بسهمك يا يوستنيانوس ولكنك ستقيم لي ديراً على هذه الصخرة” وفي الغد شاهد الملك الأساسات مخططة بالبياض على الأرض تعيّن شكل البناء القائم اليوم .
وهناك رواية ثانية تقول بأن يوستنيانوس قصد الحج إلى القدس مروراً بانطاكية العظمى ومعه جيشه فخيّم في تلك البقعة. وتتفق الروايتان في كيفية تحوّل الظبية إلى والدة الإله وفي وضع أساسات الدير. وقد أوضحت الرواية الثانية فشل المهندسين والبنّائين في تخطيط الدير وكيف ظهرت لهم السيدة ليلاً وأوحت لهم باعتماد الرسم الأبيض.
تم إنجاز هذا الدير عام 547 أي في نفس العام. وحجَّ يوستنيانوس وعرَّجَ في طريق العودة لزيارة الدير ففتح أبوابه لمن يرغب من المؤمنين ورتّب فيه المتوحدات والراهبات وارتحل إلى القسطنطينية. ثم وبعد سنوات عدة خشي من أن يخلفه على العرش من يضّن على السيدة وديرها بما رتّبه لها من المال كل عام، فأقطع الدير الحقول والمواشي والأوقاف.
ويقال إن شقيقة يوستنيانوس كانت أول رئيسة لهذا الدير المشيّد للناسكات والنساك كل من الفئتين بمعزل عن الأخرى.
ويوستنيانوس هذا كان سيف الأرثوذكسية من قبل أن يتبوّأ عرش القسطنطينية. وبعد صيرورته إمبراطوراً أوقف تقدم مذهب أوريجانس الإسكندري في سورية وحارب بشدة أصحاب الطبيعة الواحدة وبثّ المسيحية في آسيا وأوربة فتنصّر في عهده في آسيا الصغرى سبعون ألفاً من الوثنيين في آسيا الصغرى. أما أعماله العمرانية فكانت بالإضافة إلى بنائه دير السيدة في صيدنايا، بناء كنيسة السيدة في القدس ومشفى للغرباء فيها، ودير القديسة كاترينا في طورسينا وكنيسة التيه في طورسيناء أيضاً وكاتدرائية إنطاكية العظمى بعد أن دمرت الزلازل كل المدينة. كما أمر ببناء دير القديس سمعان العجائبي الإنطاكي العمودي وكنيسة آجيا صوفيا. توفي بعد حياة حافلة بالمبرّات حوالي 82 عاماً في عام 565م.


كنيسة الدير:
تقف هذه الكنيسة في مصفّ كنيسة القيامة وكنيسة بيت لحم وكاتدرائية صور ويُجمع السيّاح والأجانب على أن أعظم كنائس الشرق ثلاث: بيت لحم ــ صيدنايا ــ طور سيناء إضافة إلى كنيسة القيامة. وهي على اسم ميلاد السيدة العذراء، في داخلها الجميل والمتّسع، صفان من الأعمدة يقسمانها إلى ثلاثة صحون وصورها وأيقوناتها جميلة وأجملها أيقونة العذراء.
أما أيقونسطاسها الخشبي المحفور الجميل جداً فهو مشابه للأيقونسطاسات في سائر كنائس الأديار البطريركية من القرنين الثامن أو التاسع عشر.
الكنيسة خالية من القباب كالكاتدرائية المريمية ويزيّن أرضها رخام جميل ملوّن. وقد تعرضت لزلزال قوي في عام 1759 فتهدمت وأُعيد بناؤها سنة 1766. وفي عام 1860 أعيد ترميمها على يد مهندس المريمية الذي أعاد ترميم الكاتدرائية بعد فتنة ذلك العام الشهيرة.
للدير شهرة محترمة عند كل الأديان وبالتحديد عند المسلمين ويذكر التاريخ أن شقيق السلطان صلاح الدين الأيوبي مرِض وشُفي في الدير وأن شقيقته خاتون كانت تزوره بشكل دائم لتقدم له نذر شقيقها من الزيت.
مقام الشاغورة:
هي أدعى ما في الدير للخشوع وهي حُجرة صغيرة منقورة في الصخر في المكان عينه الذي تحوّلت فيه الظبية إلى السيدة العذراء. تُخلع النعال قبل الدخول إليها ولا منفذ لها غير بابها الرئيس وباب ثانٍ خلف هيكل الكنيسة وتتدلّى منها المصابيح والقناديل الزيتية المنارة مع إحراق البخور بشكل دائم يؤجج الإيمان في الصدور. في هذه الزاوية وُضِعَت أيقونة السيدة العذراء التي رسمها القديس لوقا وهي واحدة من خمس أيقونات رسمها هذا القديس الرسول والطبيب كما أكدت الأبحاث التاريخية أن والدة الإله هي التي دبرت هذا الأمر لتكون هذه الأيقونة في ديرها وفي طاقة الشاغورة
كيفية وصول الأيقونة إلى دير السيدة:
وصلت هذه الأيقونة في عام 888 على يد الراهب ثاوذوروس الذي جاء قبيل الفصح إلى صيدنايا مع قافلة من الحجّاج إلى القدس الشريف، وكان قد أبلغ رئيسة الدير الأم مارينا عن نيته بتقديم أيقونة للسيدة يشتريها من القدس.
وبالفعل فقد اشترى هذا الراهب في نهاية رحلته أيقونة للسيدة العذراء انتقاها من بين عشرات من الأيقونات لأنه تراءى له انها تفيض نوراً وأنها بدون شك تليق بدير السيدة فلفها بعناية وخبأها. وفي الطريق نَجَتْ القافلة من كمين نصبه الأشقياء بفضل الأيقونة التي قالت له: “لا تخف يا ثاودذوروس فلن يمسّك هؤلاء الأجلاف بأذى” وكذلك نجت القافلة بالقرب من الناصرة من أسد مفترس اقترب من القافلة ثم عاد هارباً فاعلم ثاوذوروس رفاقه بحقيقة الأمر.
أدرك هذا الراهب حقيقة هذا الكنز الروحي وقرّر الإحتفاظ به فغير طريقه إلى عكا حيث ركب البحر. وكان البحر هائجاً وإذا بصوت يصعد من الأيقونة ليقول له: “لا تخف يا راهب فإني معك” وفعلاً هدأت الرياح وكان المركب قد عاد إلى مرفأ عكا فقرر الراهب ثاوذوروس إرسال هذه الأيقونة إلى الدير حسب نيته الأولى فغادر عكا إلى دمشق براً ومنها إلى صيدنايا حيث دخل الدير وسلّم على الرئيسة مارينا التي نسيته لطول غيابه. وفي غرفته بالدير كشفَ عن الأيقونة فوجدها مبتلة بندى تفوح منه رائحة ذكية كالبخور وهنا أصرَّ مجدداً على الإحتفاظ بها وقرر مغادرة الدير بسرعة. وفي صباح اليوم التالي ودع الأم الرئيسة وقصد الباب للخروج من الدير فأحس بقوة خفية تمنعه، حاول مجدداً فلم يفلح واستمر يقوم بهذه المحاولة ثلاثة أيام ولم يفلح ففاتحته الرئيسة بالأمر مستوضحة منه سبب عدم مغادرته رغم وداعه لها ثلاث مرات. عندها باح لها بالسرّ مستغفراً الله وراجياً أن تسمح له بالبقاء في الدير لأنه لن يستطيع فراق الأيقونة. فأذِنت له واحتفل والرئيسة بوضع الأيقونة في كوة مرتفعة قليلاً وكان الندى يقطر منها فجمعته الرئيسة وأودعته في إناء للإستشفاء.


دوائر الدير:
في الدير مجموعة من الدوائر تطوَّرت مع الزمن وتبعاً للحاجة: منها دائرة البطريرك لأن العادة جرت أن يقضي غبطة البطريرك بعض الوقت في الدير. كما ان فيه قاعة لعقد جلسات المجمع الإنطاكي المقدس ودوائر لسكنى مطارنة الأبرشيات.
وفي الدير حارة للراهبات تقطن في غرفها العديدة متوحّدات الدير وفي آخر هذه الحارة ميتم للبنات الصغيرات بالإضافة إلى غرف للزائرين.
مدرسة الدير:
وهي ملحقة به وتقع أسفل الدرج وتعود إلى عهد الجمعية الامبراطورية الفلسطينية الروسية ثم جُددت في عام 1950 وهي مفتوحة لأبناء البلدة وقد بُدئ بتعليم البنات فيها منذ عام 1950.
متحف الدير:
هو متحف بطريركية انطاكية وسائر المشرق أنشأته رئيسة الدير الحالية الأم كاترين أبي حيدر وجمعت فيه الكثير مما يمكن اعتبارها عناصر تتكلّم عن تاريخ البطريركية والدير إضافة إلى ما تمّ نقله من متحف البطريركية عندما كان في الطابق الأسفل من دار البطريركية مكان المكتبة حالياً.
أما موجودات هذا المتحف فهي أيقونات أثرية ومن مدارس متعددة. بالإضافة إلى ملابس كهنوتية حبرية خاصة بالبطاركة وأواني كنسية فضية وذهبية وعدد كبير من القناديل والمباخر والكؤوس المقدسة معظمها من القرن الثامن عشر والتاسع عشر ومجموعة ثمينة من الميداليات والأوسمة والهدايا المقدّمة لمثلث الرحمات البطريرك الياس الرابع وصليب البابا لويس الثاني عشر المُهدى إلى غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع ونسخ عديدة من الإنجيل المقدس الطقسي بالعربية واليونانية مغلفة بمادة مفضضة ومذهّبة مع الكثير من الأمتعة الأخرى. ومن الموجودات الهامة جداً نسخة طبق الأصل عن وثيقة معاوية بن أبي سفيان في السنة الرابعة من الهجرة والتي يوجد نصها الأصلي في دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي.
أما مكتبة الدير فهي ليست في متناول الجميع لأنها مجموعة مخطوطات ومطبوعات تُفيد الباحثين وقد أصدرت البطريركية كشافاً بها عام 1978.
وفي معرض حديثنا عن الحج إلى دير صيدنايا في عيد السيّدة كما هو مألوف لدينا شعبياً فلا مندوحة لنا من أن نكرر ما لدير السيدة من مكانة كبرى عند الأجانب فهو مساوٍ لكنيسة القيامة في القدس وكنيسة بيت لحم ودير سانت كاترين في سيناء وحنانيا الرسول في دمشق بالإضافة إلى الشارع المستقيم (مدحت باشا).
ويكفي أن ننقل ما نقله مؤرخو الإفرنج أثناء حروبهم  عن حجهم إلى دير صيدنايا إذ كانوا يحصلون على الإذن من سلاطين المسلمين لزيارة صيدنايا والتبرّك بديرها وإلا اعتُبر حجهم ناقصاً.
العجائب:
إن عجائب الدير لا تُقدّر ولا تُحصى ويكفي إن نظرنا إلى درج الدير الخارجي كيف تحوّلت نقطة الزيت (المُقدّمة وفاء لنذر) إلى شكل السيدة المصوَّر فوق باب الشاغورة لأدركنا العجائب التي تجترح.

المراجع
دير سيدة صيدنايا البطريركي – د. جوزيف زيتون- 2008

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share