تراجع القسّ تيري جونز، ولله الحمد، عن اعتزامه إحراق نسخ من القرآن. غير أنّ شهرته، بسبب دعوته البغيضة إلى إحراق القرآن، قد طبّقت الآفاق. فباتت أخباره وتصريحاته وصوره تتصدّر الصفحات الأولى من الصحف ونشرات الأخبار المرئيّة. وعلى الرغم من عبور هذه العاصفة على خير بقي نجم جونز ساطعًا في الفضاء الإعلاميّ، إذ ما زالت وسائل الإعلام تلاحقه وتبثّ أخباره. ولا يختلف اثنان على الإقرار بأهمّيّة الدور الذي قامت به وسائل الإعلام في إبراز ظاهرة القسّ جونز.
فجونز، الرجل المجهول الذي لا يزيد عدد أتباعه عن الخمسين شخصًا، استطاع أن يلفت الأنظار إليه إذ غذّى مشاعر العديد من المتشدّدين الدينيّين المعادين للإسلام والمسلمين. وما اعترافه “بجهله التامّ بالإسلام وتعاليمه وعدم تعامله طوال عمره مع أيّ مسلم” إلاّ دليل على تعصّبه الأعمى. والتعصّب لا يمكن أن ينشأ إلاّ عن جهل أو عن تجاهل مقصود. وليس جونز، في هذا السياق، حالة فريدة في العالم، بل ربّما يمثّل حالة عامّة تطال جماعات وفرقًا وفئات شتّى تنتميّ إلى كلّ الديانات والمذاهب والإيديولوجيّات القديمة والمعاصرة. فهو، وإن لم يمثّل المسيحيّة ولا المسيحيّين، يمثّل شريحة واسعة من الشعوب الغربيّة بعامّة، والشعب الأميركيّ بخاصّة.
وسائل الإعلام غير مسؤولة عن نشوء هذه الجماعات المتشدّدة التي تسيء إلى نفسها وإلى مَن تتسمّى به أكثر ممّا تسيء إلى الآخر. لكن هذه الوسائل، ولا سيّما المرئيّة، تسهم في الترويج لأفكار تلك الجماعات المتطرّفة ومعتقداتها التكفيريّة والإقصائيّة، كما تسهم في الآن عينه في الترويج لردود فعل مَن اعتبروا أنفسهم معتدًى عليهم. وكثيرًا ما تهمل تلك الوسائل أخبار الجماعات الدينيّة المعتدلة الداعية إلى الحوار والسلام والاحترام المتبادل. لكنّ ذلك يعني أنّ متابعي وسائل الإعلام أو غالبيّتهم قد تستهويهم أخبار المتشدّدين، ولو كانوا قلّة، أو ربّما يصدّقونها أكثر ممّا يصدّقون أخبار المعتدلين الذين يُتّهمون عادةً بأنّهم يداهنون أو يسايرون الطرف الآخر.
أدانت الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة دعوات القسّ جونز إلى حرق القرآن، إذ اعتبرتها اعتداءً سافرًا على المسلمين وإساءة إلى مشاعر المسلمين. موقف الكنائس هو موقف بديهيّ نابع من صميم التعاليم الإنجيليّة والمسيحيّة، ولم يكن قادة تلك الكنائس بحاجة إلى جهد كبير لإدانة جونز ودعواته. غير أنّ موقف الكنائس لا يخفّف من وطأة واقع الحال الذي يشير إلى تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا (رُهاب الإسلام) في المجتمعات غير الإسلاميّة لأسباب شتّى تختلف بحسب البلدان والظروف والسياقات. وقد لا يكون الإرهاب وحده ما يسهم في ازدياد النفور والهلع من المسلمين. بل يمكننا، وفق ما يزعمون، أن نضيف إلى الإرهاب الهجرة الوافدة، وأوضاع حقوق الإنسان بعامّة في المجتمعات الإسلاميّة.
لا يمكن مواجهة هذا الشعور الإسلاموفوبيّ بالمظاهرات المندّدة وبالبيانات المستنكرة وبالتصريحات التي تعيد التأكيد بلا كلل ولا ملل على البديهيّات الدينيّة والأخلاقيّة. بل ينبغي للمسلمين، وشركائهم من المسيحيّين الذين يعنيهم تقدّم المسلمين ونهضتهم، البحث عن جذور هذه الإسلاموفوبيا الغربيّة والعمل معًا على اجتثاثها. فإن كان صحيحًا، وهو صحيح، أنّ الإسلام بريء ممّا يوصم به من قبائح قام بها بعض المسلمين المتلبّسين بلباس الإسلام، فعلى المؤسّسات الدينيّة الناطقة رسميًّا باسم الإسلام إزالة الشوائب التي تشوّه صورة الإسلام والمسلمين في العالم. وهذا لن يتحقّق بالبيانات الرسميّة والتصريحات، بل بالعمل الجدّيّ الدؤوب على إحياء الاجتهاد ومواجهة تحدّيات الحداثة والمعاصرة بلغة اليوم الراهن لا الزمن الغابر.
الأمر الإيجابيّ الوحيد الذي قامت به وسائل الإعلام حين أبرزت قضيّة القسّ تيري جونز إنّما هو إنذار المعنيّين بالشأن الدينيّ بتنامي التعصّب والكراهيّة والعنصريّة في بعض الفرق الدينيّة. قد يكون هناك مؤامرة صهيونيّة ضدّ الإسلام والمسيحيّة، قد يكون هناك أياد سياسيّة أو استخباريّة عالميّة وراء هذه الظواهر، قد يكون هناك مصالح ماليّة أو اقتصاديّة تدفع في اتّجاه تغذية هذه الدعوات المغرضة… لكنّ ذلك كلّه لا يعفي المسيحيّين والمسلمين وقادتهم الدينيّين من العمل معًا من أجل علاقات أفضل تقوم على أسس ثابتة لا يزعزعها قسّ معتوه كجونز ولا شيخ يتملكه جنون العظمة كأسامة بن لادن.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 10 تشرين الأول 2010