أهل التعصّب ملّة واحدة

الأب جورج مسّوح Sunday October 24, 2010 157

شتّان ما بين الإيمان والتعصّب. هما نقيضان لا يلتقيان ولا يسعهما التساكن معًا. إمّا أن يقضي أحدهما على الآخر أو أن يمضي كلّ منهما في طريقه. فالإيمان ليس سوى التحرّر ممّا يشدّ الإنسان إلى ترابه، ويسمو به إلى حضرة الله. أمّا التعصّب فليس سوى عودة الإنسان إلى تمجيد ترابه ولحمه ودمه وعظامه، والهبوط من حضرة الله إلى عبادة ذاته.

الإيمان بالله يجعل الإنسان خاضعًا لحقيقة كون الله إله الناس كافّة وليس إلهه الخاصّ أو إله قوم دون قوم آخرين. والإيمان بالله يجعل الإنسان قانعًا بأنّ جميع الناس متساوون أمام الله، وبأنّه مكلّف بإظهار محبّة الله ورحمته إلى أخيه الإنسان. والإيمان بالله يجعل الإنسان عاملاً من أجل استباق الخيرات وتحقيقها في عالمنا اليوم، وليس في الآخرة وحسب. والإيمان بالله يجعل الإنسان يبتعد عن كلّ ما يشوب الإيمان بوحدانيّته، فثمّة مَن يشرك بالله عبر عبادته لذاته أو لمذهبه أو لطائفته أو لعقيدته…

أمّا التعصّب الدينيّ أو المذهبيّ أو الطائفيّ فينأى بالناس عن السكنى إلى الله. فالتعصّب يمنع الله من أن يسود على الناس كافّة، فيأسره في فئة دون أخرى. والتعصّب يبطل القول بأنّ الله هو ربّ العالمين أو إله الناس جميعًا، ويزيّن لمعتنقيه أنّ الناس ليسوا سواسيّة أمام الله. والتعصّب يجعل الإنسان يعتقد أنّ الله ليس إله المحبّة ولا إله الرحمة، بل إله الكراهية والبغض والانتقام. والتعصّب يبعد الناس عن الله وعن كتبه ورسله وأنبيائه وقدّيسيه وأوليائه، وقد يكون العامل الأساسيّ في عدم إيمان بعضهم بسبب سلوك أصحاب التعصّب. لذلك يبدو صحيحًا القول بأنّ التعصّب، وبلا ريب، وجه من وجوه عدم الإيمان.

كثيرًا ما يخلط بعضهم ما بين التديّن والتعصّب، فيما هما لا يتلاقيان بالضرورة. فالتديّن هو الأشكال التطبيقيّة التي يتّخذها الإنسان للتعبير عن إيمانه في العبادة والشعائر والسلوك وفي كلّ ما يتّصل بحياته اليوميّة. لذلك لا علاقة ما بين التديّن والتعصّب، وليس أحدهما علّة للآخر. فثمّة غير متديّنين يفوقون بتعصّبهم المذهبيّ المتديّنين، وثمّة متديّنون يفوقون غير المتديّنين بانفتاحهم على البشر جميعًا من دون النظر إلى انتماءاتهم الدينيّة أو المذهبيّة. ويسعنا، في هذا السياق، انطلاقًا من تعريفنا بالإيمان أن نقول بأنّ المتديّن الحقيقيّ لا يمكن أنّ يكون متعصّبًا، وبأنّ المتعصّبين إلى أيّ دين انتموا ملّة واحدة.

ثمّة أمر في غاية الأهمّيّة يميّز ما بين المؤمن والمتعصّب. فالمؤمن هاجسه أن يحمل على عاتقه المسؤوليّة عن خلاص سواه ممّن لا يقاسمونه الإيمان ذاته، ذلك أنّه مدعوّ إلى أن يحبّ لسواه ما يحبّ لنفسه. لذلك يدرك أنّه ينبغي له ألاّ ينصّب نفسه ديّانًا على الآخرين، هذا شأن الله وليس شأنه، شأنه أن يصلّي ويرجو إلى الله أن يرحم جميع الناس وأن يهبهم النجاة. أمّا المتعصّب فيبحث عمّا يفرّقه عن سواه من أهل الأديان والمذاهب الأخرى. وللمفارقة، ليس من مفرّق سوى الشيطان، فاسم الشيطان في اليونانيّة “ذيافولوس” يعني الذي يفرّق بين الله والناس بالفتنة والتجربة. ولكنّ التفريق بين الإنسان وأخيه الإنسان لا يقلّ سوءًا عن الذي يكون السبب في إبعاد الإنسان عن الله.

كلّ مَن يعمل على زرع الفتنة بين الإنسان وجاره، أو بين أهل الحارة الواحدة أو المدينة الواحدة أو الوطن الواحد يعمل عمل الشيطان نفسه. وإذا تلبّست الفتنة لباسًا دينيًّا أو مذهبيًّا فذلك دليل ساطع على كون الشيطان واقفًا خلفها وخلف مَن يوقدها، فالشيطان يلبس أحيانًا لباسًا نورانيًّا وفق قول الرسول بولس. ولا غرو، إذًا، أن يكون بعض المتجلببين بجلباب الدين قد باعوا أنفسهم للشيطان. وقانا الله شياطين الفتنة وهدانا سواء السبيل إلى الإيمان به وإلى خير العباد والبلاد.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 24 تشرين الأول 2010

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share