كلمة ألقيت في 18 آذار 1999، في كنيسة القديس نيقولاوس – الأشرفية، بيروت.
لن أتكلّمَ كثيراً… أساساً ليس عندي إلاّ فكرة واحدة… فهذه ليست محاضرة، ليس فيها بحثٌ عقليّ ولا معلومات. إنّما هي عرض فكرة. واذا نجحتُ بتمريرها لكُم أكون سعيداً وشاكراً لله.
هذه الفكرة هي الانطلاق. “الآن أَطلِقْ عبدَكَ… ” لا أقصد انطلاق الساعة الأخيرة كسمعانَ الشيخ (وإن كان هذا يدخل أيضاً ضمن موضوعي)، بل الانطلاق في كلِّ الحياة.أعني موقف الانطلاق، الانطلاق الداخلي، حالة انطلاق داخلية تتّصف بها حياتُنا… أي الموقف الكياني…
في الحياة الروحية (أو الحياة عامة)، مواقف أساسية ثابتة ودائمة يجدر بالانسان المسيحي أن يتبّناها. مثال على ذلك: الاحساس بالخطيئة بالعمق، اليقين برحمة الرب التي لا حدّ لها، الشكر الدائم على كل شيء الخ… والانطلاق هو من هذه المواقف الأساسية.
واختياري لهذا الموضوع كان أيضاً لسببٍ آخَر وهو أننا في زمن الصوم الكبير الذي هو زمن المسير نحو القيامة، نسير خلاله ونَصعد نحو الفصح. وإنَّ الفصح (بحسب معنى الكلمة) هو عبور، هو انتقال. ننتقل فيه “من الموت الى الحياة ومن الأرض الى السماء” (كما نرتّل يوم العيد).
فالانسان مدعوٌّ كيانيًّا الى القيامة، الى أن يحيا، أن ينفتح، ويَخرجَ من ذاته ليتقبّل الحياة… – “بتأييد الربِّ أسيرُ الى الأمام”… يقول داودُ في المزامير. “أنسَى ما وراء وأمتدُّ الى قدّام”… يقول بولس الرسول إلى أهل فيليبي. -“من أراد أن يتبعني، فيحمل صليبه كلَّ يومٍ ويتبعني” (لوقا 9: 23). والربُّ يقول لبطرس: “أنتَ اتبعني”…. ومتَّى العشار على مائدة الجباية: “قام وتبعه”…
-في سِفْر نشيد الأنشاد: “أُجذُبني وراءَكَ فنَجري”…فنَجري… “قومي يا خليلتي يا جميلتي وهلمّي…” هلمّي… “أُهرُبْ يا حبيبي وكُنْ كالظبي على جبال الأطياب”… -“رفعتُ عينيّ الى الجبال من حيث يأتي عوني” (مزمور 120: 1). -إن فكرة الانطلاق والخروج والتخطّي للتسامي… تملأ الكتابَ المقدَّس.
= في سفر نشيد الأنشاد مقطعٌ حلوٌ جداً وذو معنى عميق: “في الليالي على مضجعي التمستُ من تُحبّه نفْسي. التمستُه فما وجدتُه. أنهَضُ وأطوفُ في المدينة، في الشوارع وفي الساحات، ألتمسُ من تحبُّه نفسي. اني التمستُهُ فما وجدتُهُ. صادفَني الحرّاسُ الطائفون في المدينة. هلْ رأيتُم من تحبّه نفسي… فلما تجاوزتُـهم قليلاً وجدتُ من تحبّه نفسي. فأمسكتُه، ولسـتُ أُطلقُـه حتـى أُدخِلَـه بيت أمّي وخدرَ مَن حبلَتْ بي”… الحراسُ هم القيود والعادات الاجتماعية، وما إلى ذلك. كل ما يؤول الى القوقعة والجمود والتحجّر. “ابن الانسان ربُّ السبت أيضاً”… وبيت أمي هو مصدر كياني، فمن هناك ينطلق انطلاقي…
= في عيد القديس استفانوس أول الشهداء اختارت الكنيسة مقاطع من خطابه لليهود، لا كل خطابه، بل المقاطع التي تتناول الانطلاق: “أيُّها الرجال الاخوة والآباء اسمعوا: إن إله المجد تراءَى لأبينا ابراهيم… وقال له: أخرُجْ من أرضِكَ ومن عشيرتِكَ وهلمّ الى الأرضِ التي أُريكَ… وبعد نقْلِهِ الى الأرض التي أنتم ساكنون فيها الآن، لم يُعطِهِ فيها ميراثاً ولا موطئَ قدمين…” وذلك لئلا يُقيمَ في الأرض…
ثم تابع استفانوسُ خطابَهُ وقال: “إن سليمانَ بنَى لله بيتاً. لكنّ العلِيَّ لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي… أيّ موضع يكون لراحتي؟… اللهُ لا ينحصر في بيت… لا ينحجز… الشاعر الفرنسي Paul Claudelيجعل الله يقول: “Brûle ta maison, je veux passer” . (أُحرُقْ بيتَكَ، أُريد أن أمُرّ).
ويتابع استفانوسُ فيقول: “يا قساةَ الرقاب… إنكم تقاومون الروحَ القدسَ دائماً… (الروح الحيّ المحيي الذي يهبّ…)، حتى وصل الى القول:”ها أنذا أرى السماواتِ مفتوحةً، وابن البشر قائماً عن يمين الله… أيُّها الربُّ يسوعُ المسيح إقبلْ روحي…” روحي طالعة إليك…َ
= ثم في عيد دخول السيد الى الهيكل، يُتلى الانجيلُ القائل: “كان انسانٌ في أورشليمَ اسمه سمعان. وكان هذا الانسان بارًّا، تقيًّا، ينتظر تعزيةَ اسرائيل. وكان قد أُوحِيَ إليه من الروحِ القدس أنّهُ لا يرى الموتَ قبْل أن يُعاينَ مسيحَ الرب”… ثم “الآن تُطلق عبدَكَ أيُّها السيد على حسب قولِكَ بسلام فإنّ عينَيّ قد أبصرتا خلاصَكَ الذي أعددتَه…” كان ينتظر التعزيةَ والخلاص. كان عائشاً لينتظر…
ثم نرى حنّةَ النبيّة ابنة فنوئيل: “هذه تقدّمتْ في الأيام كثيراً… ولها أرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل متعبدة بالأصوام والأسهار ليلاً ونهاراً… فهذه حضرتْ في تلك الساعة تشكر الربَّ وتحدِّثُ عنه كلَّ مَن كان ينتظر فداءً في أورشليم…” إنّه الانتظار نفسه، تَوَجُّهُ العمر كلّه، ليلاً ونهاراً، والتوق الى مجيء المخلـّص. وفي رسالة العيد: “أنتَ الكاهنُ الى الأبد على رتبة ملكيصادق”… الى الأبد…
= هذا وإذا دقَّقنا نجد أنّ الحياةَ كلَّها تقوم على هذا الانفتاح:
– على صعيد كيانِ الله، إذا جاز القول: فالله محبةٌ في ثالوث، أي أنّه حركة محبة دائمة، خروج دائم لكل أقنوم نحو الآخَر… للدخول في الآخَر …
– على صعيد تدبير الخلاص: يسوعُ خرج من حضنِ الآبِ الى العالَمِ ليُتْحِدَ العالمَ به ويخلـّصه. وفي الوقت نفسه كان اشتياقه للرجوع الى الآب…
– على صعيد كيان الانسان: لقد بدا فلسفياً أن العنصر الأساسي في حياة الانسان هو الشوق (le désir). فبدون شوق، بدون رغبة… تنتقص الحياةُ. فالانسان يعيش بقدر ما يشتاق ويتوق ويمتدّ… هذا ويقول الآباء انه حيوانٌ ذوكصولوجيٌّ، أو همنولوجيٌّ، أي انه خُلق للتمجيد والتهليل والتعجّب (merveillementé). “ما أعظم أعمالَكَ يا ربّ”…
– وجود الملائكة أساساً وكيانُهم هو لهذا التعجّب الدائم: “قدوسٌ قدوسٌ قدوسٌ ربُّ الصباؤوت، السماء والأرض مملوءتانِ من مجدك”. وقد علـّمونا أن الحياة المسيحية الحقة تدعى حياة ملائكية (vios angelicos).
– في الزواج يترك الرجُلُ أباه وأمَّه ويلتصق بامرأته… والمرأة يكون اشتياقها لرجلها (يقول الكتاب)… فيصيرانِ جسداً واحداً… لتمجيد الله. (لا لينظر الواحد الى الآخَر، بل لينظرا معاً الى الله…)
– في الفن اجمالاً والرسم والموسيقى ينفتح أمامنا أفقٌ آخَر، فننتقل الى تخومِ عالَمٍ آخَر… وقد قال دوستويفسكي: “الجَمالُ سوف يُحرِّر العالَم”…( la beauté sauvera le monde).
– وهذا الشوق، هذه الحرارة (ferveur)، هو ما نحتاج اليه قبل كلِّ شيءٍ في حياتِنا… إذ إننا بدونه نفتُر، نبتعد، ننسى، فنخطأ ونسقط… نموت.
– إنّ القديس اسحق السرياني يشبِّه هذه الحرارة (لا تتعثروا) بالكَلْب، الكلبُ حارسُ البيت. فاذا غاب الكلبُ أو نام، يتعرّض البيتُ للسرقة… وهكذا إذا غاب الشوقُ عن النفس، خَمُدَتْ وتعرّضتْ سريعاً للخطيئة. – وهذا يسري على صعيدَي الصلاة والعمل.
– فلا بُدَّ للصلاة أن تتمَّ بحسٍّ وحرارة، وإلاّ فتكون روتينية ومملـّة ومتعبة… في كتاب السلّم الى الله نرى راهباً حارّ العبادة يقول عندما يسجد: “هلموا (يا ارادتي وعقلي وقلبي وكلّ كياني) هلموا لنسجد ونركع للمسيح…” إذا عنينا ما نقول فكلمات الصلاة نفسها توقظنا وترتقي بنا. “المجد للآب…”: وهو تمجيد يتكرّر جداً… تسبيح. ثم “الآن وكل أوان والى دهر الداهرين. آمين”: إنه أفقُ الأبدية، وكأنّ الأبدية تنفتح لنا. هللويا: تهليل وشكر وفرح… وإذا كنا قد خطئنا فلنا التوبة والدموع… كلّ ذلك خروجاً والتماساً للخلاص…
– أمّا على صعيد العمل، فالمحبة التي تحوي كلّ الفضائل، المحبة الحقيقية تفترض الخروج من الذات نحو الآخَر، الى الآخَر: عدم البقاء حيث نحن، بل الخروج للاحساس بالآخَر والاتحاد به… “بي أنا فعلتموه” يقول يسوعُ يوم الدينونة… الايمان (لا الايمان بوجود الله وحسب)، بل الايمان الحيّ يَنقلنا الى عالَمٍ آخَر، عالمِ الأسرار الفائقة العالم. إنه بمثابة ولادة… أما الرجاء فبُعدُه هو بُعد الامتداد.
– ومن ثمار الروح (حسب غلاطية 5: 22) الى جانب المحبة، السلام (طوبى لصانعي السلام) والعفة: أن نعفّ… يقول أحد القديسين ان الطائر ليطير يدفش الهواء بجناحيه، كذلك نحن علينا أن ندفش الأهواء وراءَنا لنعفّ ونتقدّم، واللطف وغيرها من الفضائل التي توسِّع النفس وتكبِّر المرء. فالانسان أكبر من نفسه. زكّا العشّار القصير القامة صعد الى جمّيزة، ليصير أعلَى من نفسه. نحن على صورة الله، ولذلك نحن أكبر من أنفسنا.
– الخلاصة أن يكون الانسان المسيحي optatif لا captatif. optatif = منفتح، واسع الصدر، معطاء، مسامِح، كريم، لطيف… ولا أحلى من هذا، لا أحلى من الحياة المسيحية المعاشة. عكس الـ captatif = منغلق، منقبض، أناني، بخيل، حقود، ولا أردأ وأبشع وأسوأ وأقبح من هذا.
– أخيراً، الموت انطلاق: “أَخرِج من الحبس نفسي” يقول داودُ في مزاميره. – والحياة الأبدية كلّها انطلاقٌ، انطلاق لا ينتهي…
وهكذا وصلنا الى نهاية الكلام، ولم يبقَ لي سوى أن أقول وأتمنى، فيما تبقى من هذا الصوم المبارك، أن نجعله صوما، خروجاً من خطايانا وضعفاتِنا، وصعوداً نحو الفصح المجيد، العبور المجيد، اشتياقاً للآبِ، حباً واشتياقا…ًآمين. رهبنة دير مار جريس دير الحرف. 01 نيسان 2011