الدخول إلى أورشليم

mjoa Saturday April 16, 2011 397

نقلاً عن جريدة النهار، السبت 16 نيسان 2011

صعد يسوع من الجليل الى أورشليم قاتلة الأنبياء. هناك كان ينبغي له ان يموت حسبما أُعدّ له. استقبله أنصاره. وهللوا له بكلمات الكتاب. ارتضى موته. “انا ان ارتفعت عن الأرض أجذب اليّ الجميع”. سيؤمنون به بعد قتله لأنه بث روحه منذ لحظة موته فيهم.

في فترة انتظار الموت علّم كثيرا وعلّم بكثافة. التعليم عنده أخذ شكل عمل لما غسل أرجل التلاميذ أثناء العشاء الأخير. لم يشر إنجيل يوحنا إلى طبيعة العشاء لكنه قال “لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليل”. ليل في الخارج، ليل في قلبه. عتمة الكون كلها لفت يهوذا العارف المسيح إذا خانه يصبح لا شيء في الظلام.

أبقى في الإنجيل الرابع مع يوحنا محاولا رفض الليل في الأسبوع العظيم الآتي إلينا وقارئا خطبة الوداع لألتصق بها وأخرج من الدينونة وألا أساق قبلها إلى المحاكمة. لذلك استهلّ الخطبة بقوله: “لا تضطرب قلوبكم… آمنوا بي… أنا هو الطريق والحق والحياة”. أي أنا طريقكم إلى الآب ولكنكم لستم تسمعون بحق تعليم كلام وتنظيرا شخصيًا أنا الحق والحياة التي يسكبها الآب فيكم. ليس الحق فوق كلامي أو امتحان كلامي، إذا قبلتني تقبل قلب الله. الحقيقة ليست واقفة مقابل الله. هي فيه ولا تقابله. ولكن كل هذا يقتضي موتي لأن العالم لا يعرف اندماج شوقي إليكم وشوقكم إليّ الا بموتي. واذا قمت بعد هذا من بين الأموات يموت الموت.

بعد هذا قال: “لا احد يأتي الى الآب إلا بي”. أي ان من يعرفني أكشف له روح الله وأفعاله وصفاته وقواه فهذا معناه انه يرى الآب اذ لا يمكن احدا ان يرى الآب مباشرة ويحيا ولما نسي فيليبس هذا قال: “يا سيد أرنا الآب وكفانا”، قال له السيد: “الذي رآني فقد رأى الآب”. ما الآب إلاّ المحبة وفق قول يوحنا الحبيب: “الله محبة” وقال القديسون: “المحبة هنا ليست اسما أو صفة. هي جوهر الله نفسه”. وأفعال الله المذكورة وغير المذكورة في الكتاب، أي الأفعال المنسوبة الى الرب تممها المسيح في الجسد، وليس من عمل إلهي يختلف في طبيعته وعمقه عن عمل المسيح ولهذا استطاع ان يقول: “من رآني فقد رأى الآب”. وحتى لا يتوهم الناس ان ثمة أعمالا تختلف عن أعمال الآب أو بين أعمال هذا وأعمال الابن هوة قال: “صدقوني إني في الآب والآب فيّ ” ولا يمكن ان يكون يسوع في الآب لو كان الآب أعلى منه أو أقدم.

***

كيف تتصاعد فوق هذا الكلام: “إني أنا في أبي وأنتم فيَّ وأنا فيكم”. هنا ينزل محبة الله لذاته إلى محبته للبشر ويصعد محبة البشر الى فوق وتأخذ كل قوتها بأنها تبقى فوق ولو نزلت: “والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي”. لا يبقى فارق بين المحبة النازلة وتلك القائمة فوق او بين حب الله للانسان وتلقي الانسان لهذه المحبة.

ثنائية الكيانين اعني المسيح وشعبه يتجاوزه هو بوحدة الحب. وفي هذا الجزء الثاني من خطبة الوداع على وحدة المحبة الواضحة يكشف المسيح نفسه منشئ الوحدة فيسمي نفسه الكرمة ويسمينا الأغصان. الأغصان تَثْبت في الكرمة. صورة الوحدة في هذا الفصل تنبع من الآب الى المسيح ومن المسيح الى المؤمنين ثم يوضح صورة محبته انه يبذل نفسه عنهم ويلح على نشر المحبة في ما بينهم حتى يصل الى حياتهم في العالم اي الى الاضطهاد. ولكنه يعد بأنه سيشددهم بالروح القدس.

كل اللغة المتعلقة بالروح القدس في خطبة الوداع تعني استمرار المسيح حبيب الله بالروح القدس. اخيرا تأتي صلاة الكاهن العظيم. حديث مستفيض عن مجده. “انا مجدتك على الأرض”. كلمة يوحنائية بامتياز. رددها يسوع في إنجيل يوحنا منذ عرس قانا الجليل.

قال يسوع كل هذا الكلام وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون والطريق نازلة جدا ونلت بركة المشي هناك وسطحها مليء بالغبار وذلك السنة الـ 1947 أي سنة قبل احتلال الأرض ومن هناك سار إلى موته المجيد الذي سنشترك بكل بهائه خلال الأسبوع المقبل. ومن خلال كلامه أخذت اليوم لكم “مملكتي ليست من هذا العالم”. هذا ملك آخر يستقر في قلبك ان انت أصغيت في كل ظرف الى كلام المخلّص فيجعلك تشهد للحق كما شهد هو للحق. ولما سأله بيلاطس ما هو الحق لم يقل كلمة. الحق ليس نظرية تُشرح. هو سبق فقال ان شخصه هو الحق. إن أنت سمعت كلامه وخضعت له لا يبقى من مسافة بينك وبين الحق الكثير يلفت القارئ في وصف آلامه. “اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي اقترعوا”. يجب ألا يتركوا عليه شيئا، للزيادة في إذلاله. لماذا أتى الانجيلي بتفصيل يبدو صغيرا “وكان القميص بغير خياطة منسوجا كله من فوق”. لم يستطيعوا شقه. من بعد الواقعة يبدو هذا كلاما مجازيا. لا يستطيع احد ان يشق ثوب المسيح لأن وحدة المسيح قائمة إلى الأبد. من اعتدى على ثوب المسيح ينهي ذاته. آخر كلمة قالها يسوع: “قد أُكمل”. في المعنى العادي أتممت النبوءات. كلها كتبت عني بطريقة او بأخرى، بمعنى دقيق أو بمعنى عام، ولكن قد أُكمل تعني ان كل شيء جميل وجليل وطاهر. قيل في الفلسفة وفي آداب الشعوب وفنونها، في كل فكر حي يجد كماله ومجده في هذا الجسد الدامي المعلق على الخشبة. كل شيء تم في الجلجلة ومنها سطع المجد. بعد هذه الكلمة الأخيرة يقول يوحنا الرسول: “ونكس رأسه وأسلم الروح”. الحقيقة ان الجسد الذي يحتضر يسلم الروح اولا ثم ينكس رأسه. لماذا كسر الإنجيل التتابع البيولوجي وجعل إسلام الروح قبل تنكيس الرأس؟ قراءتي الحدسية انه اراد انه مات وبعد هذا أسلم لا الروح البشرية فقط بل الروح القدس الذي كان فيه. اي في موته كانت العنصرة الأولى. كل شيء وصل الى قمته يوم الجمعة العظيمة.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share