اللاهوت المسيحيّ في سياقه العربيّ

الأب جورج مسّوح Wednesday June 8, 2011 165

ليس ثمّة إجماع لدى اللاهوتيّين في شأن الموقف الواجب من اللاهوت السياقيّ. فمنهم مَن يجعل اللاهوت جوهرًا لا يتغيّر بتغيّر السياق التاريخيّ أو الاجتماعيّ أو الثقافيّ، ومنهم مَن يقول بأنّ اللاهوت من دون الالتفات إلى السياق الذي يحيط به، هو لاهوت عقيم لا أثر له في حياة المؤمنين والمجتمع. لذلك، مثلاً، لم يتمّ الإجماع حول لاهوت التحرير في أميركا اللاتينيّة والقارّة الإفريقيّة.

يخوض الباحث أنطوان فليفل في كتابه “اللاهوت السياقيّ العربيّ، النموذج اللبنانيّ” (بالفرنسيّة، دار لارماتان، باريس، 2011) غمار هذا اللاهوت. فيستخرج الأفكار الأساسيّة من مؤلّفات خمسة لاهوتيّين لبنانيّين أخضعوا رؤاهم اللاهوتيّة للسياقات التاريخيّة والحضاريّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، والذين عملوا في سبيل استنباط لاهوت مسيحيّ يلتزم قضايا شعوبهم ومنطقتهم. هؤلاء الخمسة اللاهوتيّين هم: الأب ميشال حايك، والأب يواكيم مبارك، والمطران غريغوار حدّاد، والمطران جورج خضر، ومشير عون.

يكشف أنطوان فليفل عبر بحثه الشيّق ميزات اللاهوت العربيّ السياقيّ الخاصّة بالبيئة العربيّة. وتختلف قضايا هذا اللاهوت السياقيّ العربيّ عن أمثاله من لاهوتات سياقيّة نسويّة أو تحرّريّة أو سوداء (متّصلة بالقارّة الإفريقيّة) تهمّ المجتمعات التي تتحرّك فيها، أو تلك التي تشغل بال اللاهوتيّين. هذا التمايز العربيّ فرضته الظروف والأحداث التي يمرّ بها العالم العربيّ، والتي أعمل الالتزام بمواجهتها الفكر اللاهوتيّ العربيّ.

ما يجمع اللاهوتيّين الخمسة عدّة قضايا، أبرزها على الإطلاق قضيّة الشعب الفلسطينيّ الذي طُرد من وطنه قهرًا وظلمًا، فتراهم يعملون على تفكيك المقولات الصهيونيّة والردّ عليها لاهوتيًّا، ودحضها من أصولها. ويتناول هؤلاء اللاهوتيّون أيضًا موضوع الطائفيّة في لبنان، والسبل الآيلة إلى تحسين العلاقات بين اللبنانيّين والخروج من الحالة الطائفيّة إلى الحالة الوطنيّة الجامعة. كما لا يغيب الشأن الاجتماعيّ عن هواجسهم، فمسائل الظلم الاجتماعيّ والتفاوت بين الأغنياء والفقراء يشكّلان محورًا رئيسيًّا من محاور اهتماماتهم.

تحتلّ العودة إلى الوحدة بين المسيحيّين حيّزًا كبيرًا من انشغالات اللاهوتيّين المذكورين. فتعدّد الكنائس المتجذّرة كلّها في هذه الأرض يجعلها تبحث عن التقارب فيما بينها في سياقات مختلفة عن بلاد لا تعرف هذا التعدّد. لذلك، ثمّة خصوصيّة مسكونيّة في العالم العربيّ فرضتها الخبرات المسيحيّة المتنوّعة لا يمكن أن تكون حاضرة في بلاد أخرى.

الميزة الأهم للمسيحيّات العربيّة هي وجودها في شراكة إنسانيّة ووطنيّة واجتماعيّة وجضاريّة وثقافيّة مع المسلمين، وبخاصّة أنّ المسيحيّين العرب يتكلّمون بلغة القرآن، كتاب المسلمين المجيد. من هنا تبرز أهمّيّة اللاهوت المسيحيّ العربيّ بإزاء الحوار المسيحيّ الإسلاميّ، وبإزاء قضايا المسلمين والعرب. وقد كان اللاهوتيّون العرب السبّاقين في إظهار النقاط المشتركة التي تجمع المسلمين والمسيحيّين على صعيد الإيمان بالله الواحد والخلاص والعمل المشترك في سبيل إعمار الأرض وخير الإنسان.

يمثّل كتاب أنطوان فليفل فتحًا مبينًا في الأبحاث والدراسات التي تتناول أهمّيّة اللاهوت المسيحيّ في السياقين العربيّ واللبنانيّ. وعلى الرغم من تعريفه القارئ الفرنسيّ بهذا اللاهوت العربيّ، وهو ما يشكّل خدمةً جلّى للفكر المسيحيّ العربيّ، فإنّنا ننتظر صدور هذا الكتاب معرّبًا كي يكون شهادةً للمسيحيّين يفخرون بها، وتذكيرًا لهم بأنّ الطريق أمامهم لمّا ينتهِ بعد.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”،8 حزيران 2011

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share