الحسبة والمحتسبون

الأب جورج مسّوح Wednesday June 15, 2011 213

نحن، الأرثوذكس، بأمسّ الحاجة إلى التمييز في خطابنا الدينيّ ما بين الجوهريّ والعرضيّ. فالخلط ما بينهما يؤدّي، لدى بعضهم، إلى الالتباس وإلى أحكام قيميّة تُخرج بعضًا آخر من نطاق التعليم الصحيح، إلى حدّ الحكم عليه، أحيانًا، بالهرطقة أم بالبدعة غير المستحَبّة. وقد راج هذا الخلط في الآونة الأخيرة في أوساطنا الكنسيّة رواجًا يثير القلق والارتياب إذا ما استفحل، واحتلّ مساحات بقيت نائية عنه إلى اليوم.

يقوم لاهوتنا الأرثوذكسيّ على احترام التنوّع في المسائل غير العقائديّة. وهذا ينبوعه الإيمان بالآب والابن والروح القدس إلهًا واحدًا في ثلاثة أقانيم. وتبقى قائمة في عقولنا وقلوبنا المقولة اللاهوتيّة التي تقرّ بأنّ الإيمان بالثالوث الأقدس هو إيمان بالوحدة في التنوّع، وبالتنوّع في الوحدة. فعلى صورة الثالوث الأقدس ينبغي أن تكون مواهب المؤمنين، فلا يلغي أحدهم خاصّيّة الآخر، ولا يلغي فرادته. وتبقى المحبّة، وذروتها الصليب المحيي، هي الرباط الذي يجمعهم من أجل بنيان الجماعة وخلاصها.

انطلاقًا من هذا المبدأ اللاهوتيّ، عرفت الكنيسة التمييز ما بين العقائد الثابتة، التي من دون الاعتقاد بها يخرج المرء من الكنيسة، والآراء اللاهوتيّة التي إذا اختلف المؤمنون بشأنها لا يمكن أحدًا أن يحكم على مخالفيه في الرأي بالخروج من الملّة. ذلك بأنّ اللاهوت يعنى باستقامة الرأي والإيمان، وهذا مثبت في التعاليم العقائديّة التي أجمعت عليها الكنيسة في مجامعها المسكونيّة. أمّا ما لم تقرّه الكنيسة عقيدةً، فلا بأس من تعدّد الآراء بشأنه. وفي هذا التنوّع، تكمن قوّة الكنيسة وحرّيّتها التي استقتها من المسيح ربّها وفاديها. وفي هذا التنوّع، تكمن أيضًا ميزة المسيحيّة بإزاء الديانات الأخرى.

فإذا أخذنا، على سبيل المثال، مسألة الخلاص الكلّيّ، نجد تنوّعًا في الآراء عند الآباء قديمًا وراهنًا. يتّفق الجميع على الأمر الجوهريّ في هذه المسألة، وهو أنّ المسيح هو، وحده، المخلّص وليس سواه، وأنّ الخلاص لا يمكن أن يتمّ إلاّ به حصريًّا. أمّا كيف يتمّ به الخلاص ومَن يناله من الناس، فهو لأمر لا يمكن البتّ فيه. هذا الأمر يعود له وحده، ولا شأن لنا به إلاّ على سبيل الرجاء. فمَن يقول بالخلاص الكلّيّ له حججه الكتابيّة واللاهوتيّة المستقيمة، ومَن يقول بالخلاص لـمَن يستحقّونه فقط لهم أيضًا حججهم التي لا تقلّ استقامة عن حجج الأوّلين. ويسعنا في هذا الصدد إيراد عدد من الآباء من كلا الطرفين.

في وقتنا الحاضر، ثمّة أمور كثيرة أقلّ أهمّيّة من مسألة الخلاص، ومع ذلك نلاحظ تشدّدًا في الخطاب المتّصل بها. فإذا ما أخذنا، على سبيل المثال أيضًا، مسألة “فيض النو” في القبر المقدّس يوم السبت العظيم، نجد أنّ هذه المسألة تتفاوت أهمّيّتها لدى اللاهوتيّين والمؤمنين على السواء. فمنهم مَن يضعها في باب البرهان على الإيمان الحقيقيّ مخطّئًا مَن لا يعتقد بها، ومنهم مَن لا يبالي إطلاقًا بهذه الظاهرة معتبرًا إيّاها من الإيمان الشعبيّ الذي لا يمتّ بصلة إلى تعاليم الكنيسة المستقيمة.

التمييز ما بين الجوهريّ والعرضيّ ضروريّ من أجل حفظ وحدة الكنيسة المنظورة، ومن أجل تفادي الفوضى التي يمكن أن تزعزع إيمان البسطاء، وهم طبعًا غير السذّج. فالجوهريّ هو أنّ المسيح قد قام من بين الأموات ومنح الحياة للذين في القبور. أمّا مسألة “فيض النور”، فيجب ألاّ تتعدّى حدود الأمر العرضيّ والحادث الذي لا يضيف، ولا ينقص إذا لم يحصل، مقدار حبّة خردل على الإيمان بالقيامة. وثمّة قلق يتأتّى، هنا، من جعل العرضيّ يتقدّم على الجوهريّ فيما يتخلّف الجوهريّ إلى رتبة ثانويّة أو هامشيّة.

عدم التمييز ما بين الجوهريّ والعرضيّ أدّى إلى ظهور طبقة من “المحتسبين” الذين يلاحقون مَن يخالفهم الرأي كي يحاكموهم وفقًا لما يرتأونه صوابًا لديهم وانحرافًا عند سواهم. ليست “الحسبة”، أو المطاوعة كما تسمّى في بعض البلدان الإسلاميّة، سلوكًا عرفته كنيستنا في الماضي، بل هو أخذ يشقّ طريقًا له في الحاضر. فثمّة مَن يدين الناس لرأي كتبوه أو قالوه، أو يدينهم لأجل تخلّيهم عن بعض المظاهر التي لا تمتّ إلى التقليد الأرثوذكسيّ الشريف، كما في مسألة اللباس واللحية، أو في مسألة مشاركة المرأة الطامث في القدسات، أو في وضعها منديلاً على رأسها في أثناء المناولة…

احترام التنوّع هو الذي يصنع فرادة الكنيسة الأرثوذكسيّة. وكلّ فردانيّة أو أحاديّة في التعليم تقضي على جوهر هذه الكنيسة. وبدء التنوّع يكون بالفصل التامّ ما بين الجوهريّ والعرضيّ. الحسبة والمحتسبون بدعة جديدة ودخيلة على تقليدنا الأرثوذكسيّ تخالف العقيدة الأرثوذكسيّة الأساس، عقيدة الثالوث الأقدس. وهي بدعة تخالف كلام الرسول الإلهيّ: “تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم”. ونعتقد، ختامًا، أنّ ظهور هذه الطبقة من المحتسبين تعبّر عن أزمة عميقة تأسرهم وتجعلهم في رُهاب دائم من العالم الذي دعانا المسيح إلى مواجهته وعدم الخوف منه، وإن اضطَهدَنا وضيّق علينا.

 

مجلة النور، العدد الرابع 2011، ص 186-187

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share